شؤون دولية

محكمة إسرائيلية تسمح بنشر محاضر تاريخية خاصة بمذبحة كفرقاسم وخطة التهجير من خلفها

أمرت محكمة الاستئنافات الإسرائيلية العسكرية بالكشف عن محاضر ومستندات تاريخية طرحت في محكمة منفذي مذبحة كفرقاسم في 29.10.1956 وتتعلق بالخطة السرية “خلند” لطرد سكان منطقة المثلث داخل أراضي 48 إلى الضفة الغربية وهي الخطة التي شملت مخطط المذبحة.

وجاء قرار محكمة الاستئناف الإسرائيلية هذا بعدما كشفت صحيفة “هآرتس” عن أن محكمة إسرائيلية ترفض الكشف عن حكم اتخذته في مارس/ آذار الماضي وفرضت عليه أمر منع نشر وهو يتعلق بالتماس قدمه معهد “عكافوت” الإسرائيلي قبل حوالي خمس سنوات للكشف عن وثائق تاريخية سرية تتعلق بمذبحة كفرقاسم.

وبعد نشر صحيفة “هآرتس” في الأسبوع الماضي عن قرار المحكمة المذكورة بحظر نشر مضمون قرارها، وجهت جهات إسرائيلية وعربية انتقادات للمحكمة اضطرتها مساء أول من أمس الإثنين لرفع حظر النشر والسماح بالكشف عن تفاصيل قرارها.

العدوان الثلاثي

وفي أعقاب هذا القرار الجديد بإلغاء أمر منع النشر من المتوقع أن يتم نشر مئات الصفحات من محاضر محكمة المتهمين بارتكاب مجزرة كفرقاسم خلال اليوم الأول من حرب العدوان الثلاثي على مصر في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 1956. وقتها قدمت النيابة العامة الإسرائيلية عدداً من جنود “حرس الحدود” ممن شاركوا في إطلاق النار على أهالي قرية كفرقاسم عندما كانوا عائدين من قطاف كروم الزيتون في محيط بلدتهم عند المساء وقتلوا 45 منهم وأصابوا عشرات آخرين بالرصاص الحي. والمفارقة كانت أن المحكمة قاضت جنوداً نفذوا أوامر عليا ولاحقاً تم العفو عنهم وأطلق سراحهم وتمت ترقيتهم في سلم الرتب العسكرية أما القادة الكبار في المستوى السياسي والعسكري ممن خططوا للمذبحة والتهجير وأعطوا التعليمات فلم يحاكموا.

جمعية عكافوت

ومن جملة هذه المحاضر والأرشيفات التي كانت جمعية “عكافوت” قد رفعت التماساً قبل نحو العامين للحصول عليها هي تلك الأوراق الخاصة بخطة “خلند” وهي خطة تهجير إسرائيلية لسكان منطقة المثلث بواسطة استنساخ مذابح نكبة 1948 وترهيبهم ودفعهم للهرب للضفة الغربية التي كانت تحت السيادة الأردنية. وحتى اليوم بقيت تفاصيل خطة “خلند” طي الكتمان ومحكمة الاستئنافات العسكرية سمحت الآن بنشر النزر اليسير من تفاصيلها: سمحت بذكر الخطة في المحاضر والمداولات التاريخية حولها لكنها تحظر نشر تفاصيل الخطة نفسها مثلما تحظر نشر صور من مسرح المذبحة في مداخل كفرقاسم.

المؤرخ آدم راز

وكان المؤرخ الإسرائيلي آدم راز من معهد “عكافوت” للدراسات التاريخية قد قدم الالتماس قبل نحو خمس سنوات. غير أن النيابة العامة العسكرية الإسرائيلية كانت ترفض بشدة نشر معظم المواد السرية الخاصة بالمذبحة التي قدمت وقتها للمحكمة خلال مقاضاة منفذي جرائم القتل. من جملة مزاعمها قالت النيابة العامة العسكرية إنه بعد التشاور مع جهات معنية مختلفة منها وزارة الخارجية إن نشر المواد السرية من شأنه تهديد أمن الدولة ويمس بسياساتها الخارجية.

مزاعم أمنية ودبلوماسية

وفي ديسمبر/ كانون الثاني 2021 تراجعت النيابة العامة العسكرية عن معارضتها دون الكشف عن الدافع خلف تراجعها وعلى خلفية ذلك قررت محكمة الاستئنافات العسكرية في مارس/ آذار الماضي السماح بنشر المواد السرية لكن القرار بقي هو الآخر سرياً حتى مساء أول من أمس الإثنين، حيث رفع أمر منع النشر عليه.

يشار إلى أن النيابة العسكرية في البداية رفضت طلب معهد “عكافوت” بكل أجزائه زاعمة أن كل كشف إضافي عن بروتوكولات المحكمة التاريخية عدا ما سمح به حتى الآن سيمس بأمن إسرائيل بشكل شبه مؤكد، بل قالت إن هناك احتمالاً أنه في حالات معينة ربما يتعرض بعض الأشخاص للمساس بهم وبسلامتهم”، وفق قرار القاضي الإسرائيلي دورون بايليس.

تساؤلات المؤرخ

ولاحقاً غيرّت النيابة العامة العسكرية الإسرائيلية موقفها بالكامل وفي تصريحها، قالت إنها لم تعد تعارض نشر السواد الأعظم من المواد السرية المطلوبة كما جاء في قرار القاضي. من جهته، تساءل المؤرخ آدم راز من معهد “عكافوت” ما الذي حصل في السنوات الأخيرة حتى بات أمن الدولة لا يتعرض للضرر نتيجة نشر هذه المواد؟ ماذا جرى للسياسات الخارجية. ويبرر الآن السماح بنشر هذه المواد الآن بينما كان ذلك محظوراً قبل سنوات؟ ويبدو أن إسرائيل اكتشفت أن مواصلة رفض الكشف عن هذه البروتوكولات رغم مرور ستة عقود يدلل على حقيقة أنها تخشى الحقائق التاريخية ولديها ما تخفيه مما يسهل عملية إدانتها وهذا ما ألمح له آدم راز في تساؤلاته. يشار إلى أن معهد “عكافوت” يسعى للكشف عن وثائق وجرائم تاريخية إسرائيلية من منطلق أن تسوية الصراع الكبير والمصالحة الحقيقية مع الشعب الفلسطيني تتم فقط من خلال اعتراف إسرائيلي بها وتحمل المسؤولية عنها.

نهاية تموز

من جهته، علل الناطق العسكري هذا التغيير في الموقف بالقول إن القرار بشأن مواد معينة لم يسمح بنشرها كان يستند إلى عدة عوامل منها الحفاظ على الخصوصية وعلى كرامة الموتى وأخرى تتعلق بأمن الدولة وعلاقاتها الخارجية. وتابع: “في قرارها تبنت محكمة الاستئنافات العسكرية توصية مهنية من جهات أمنية ودبلوماسية معنية ترى أنه لم يعد في نشر هذه المواد ما يمس بأمن الدولة وعلاقاتها الخارجية. بموجب القرار القضائي ستكون البروتوكولات والمواد التي سمح بها بالنشر في متناول يد الجمهور بدءاً من نهاية يوليو/ تموز2022”.

وقال وزير الشؤون الإقليمية في حكومة الاحتلال، عيساوي فريج (ميرتس)، أحد سكان كفرقاسم ممن شارك في المحكمة المذكورة حول نشر بروتوكولات المذبحة كشاهد، قال معقباً إن الكشف عن هذه المحاضر هو نوع من تصحيح خطأ عمره ستة عقود ومساهمة في التئام جراح ما زالت نازفة داخل كل بيت في كفرقاسم. وتابع: “على إسرائيل أن تعرف كيف تواجه فصولاً غير لطيفة في تاريخها وقرار المحكمة الأخير هو خطوة في هذا الاتجاه لصالح كل مواطنيها عرباً ويهوداً ممن يستحقون معرفة الحقيقة”.

تسمية المثلث

يشار إلى أن إسرائيل ضمت منطقة المثلث بعد موافقة الأردن على ذلك ضمن اتفاق رودس لوقف إطلاق النار في ربيع 1949. وقتها طلبت إسرائيل من الأردن الحصول على منطقة المثلث الممتدة من أم الفحم إلى كفرقاسم كونها شريطاً جبلياً يحمي منطقة الساحل ويتمتع بقيمة جيواستراتيجية. وقد تعهدت إسرائيل في الاتفاق بالحفاظ على سكان المثلث وممتلكاتهم وكانوا وقتها يعدون نحو 35 ألف نسمة يقيمون بنحو 20 بلدة لكنها سرعان ما نكثت عهدها وتعاملت مع سكان المثلث بوحشية وحاولت التخلص منهم والاستيلاء على أراضيهم خالية منهم. ورغم الجرح الغائر والصدمة الكبيرة بقيت كفرقاسم واختار أهلها إفشال خطة التهجير. وهكذا بقية بلدات منطقة المثلث وتضاعف عدد سكانها عشر مرات منذ نكبة 1948.

وبعد فشل خطة التهجير رغم ارتكاب مذبحة كفرقاسم عام 1956 بدأت جهات إسرائيلية تطرح برامج ومقترحات للتهجير والترانسفير والطرد لأهالي منطقة المثلث هذه التي ظلت تحمل اسم المنطقة الأم، (المثلث الكبير) أي المنطقة الممتدة من بين ثلاث مدن: نابلس وجنين وطولكرم. وكشف النقاب في السنوات الأخيرة عدة مرات عن أفكار ومخططات إسرائيلية لمبادلة منطقة المثلث بالمستوطنات في أي تسوية ممكنة مع السلطة الفلسطينية التي نفت رسمياً ذلك. يذكر أن إسرائيل لم تستجب بعد لطلب فلسطينيي الداخل بالاعتذار رسمياً عن ارتكابها مذبحة كفرقاسم وتعويض عائلات الضحايا واكتفى بعض ساستها بالتعبير عن أسفهم لوقوعها مثلما أنها اكتفت بمحاكمة جنود نفذوا الجريمة بل تبين لاحقاً أنها محكمة صورية فقط دون محاسبة القيادات العليا مصدرة الأوامر.

من الشهادات النازفة

ومن ضمن الشهادات المروعة على مذبحة كفرقاسم التي حصدت أرواح 45 من سكانها وأصابت عشرات، شهادة الحاج محمود محمد فريج (أبو الأمين) الذي روى لـ ” القدس العربي” مأساته التي ترفض إسرائيل الاعتراف بها وتحمل مسؤوليتها وتعليمها بالمدارس وأنامله تداعب مسبحته وكأنه تعينه على تخفيف الغضب والتوتر المتصاعد في داخله.

راح أحمد وبقي محمود

في روايته التي يحفظها بالتفصيل اللافت وبكثير من الغضب الداخلي قال: “عدت مساء الإثنين في29.10.56 لبلدتي كفر قاسم برفقة شقيقي أحمد وصديقين علي عثمان علي وعبد الله سمير بدير، كل على دراجته من العمل في مقلع مجاور. سيارة جيب لحرس الحدود الإسرائيلي كانت تقف في مدخل البلدة الغربي عند الخامسة مساء من ذاك اليوم الأسود ما لبثت أن داهمتنا. فتح الجنود النار من بنادقهم فسقطنا أرضاً. أصبت بساقي برصاصة واستشهد شقيقي أحمد وصديقه علي. خلال ذلك سمعت أحد الجنود الثلاثة يأمر زميليه بإطلاق رصاصة واحدة بالرأس لكل منا حفاظاً على الذخائر. عندئذ انتظرت الرصاصة بالرأس ولكن شاء القدر أن مرّ في تلك اللحظة عثمان حماد عيسى وشقيقه مع أغنامهما فانشغل الجندي القاتل بهما وأفرغ رصاصه بهما وتركنا وخلال ذلك مشى عبد الله سمير بدير بين الأغنام على قدميه ويديه فنجا. أما أنا فتظاهرت بأنني ميّت مستغلاً الظلام وكنت كل الوقت أفكر بابنتي الطفلتين بعد مماتي. كنت أعزي نفسي بأن والدي سيكون والداً لهما في حال موتي. أهل البلدة العائدون من أعمالهم توافدوا للبلدة وتعرضوا لذات المصير. كنت أسمع استغاثات الأهالي العائدين قبل إعدامهم وأتعرف على هويتهم من أصواتهم وفي سري كنت أقول “الله يرحمهم. كنت أسمع بكاء الطفل ابن محمد سليم صرصور الذي كان داخل سيارة البنات وينادي بعد إصابته “يابا .. يابا” وبعد قليل جاء الجندي وأطلق رصاصة برأسه. بعد ساعة من السكون المرعب وبعد أن تيقنت من مغادرة الجنود قمت وغطيت دمائي على الأرض بالتراب كي لا يستشعروا بهربي. اختبأت تحت شجرة وكنت أغمض عيني وما ألبث أفتحهما وعقلي لا يصدق ما شهدت وسمعت وعند الفجر زحفت نحو أقرب منزل لصاحبه صبحي صرصور ودخلته ومكثت فيه حتى يوم الأربعاء. كانوا قد أبلغوا والدي بنجاتي فجاء بحالة هستيريا وكنت أسمع والدي يخاطب أمي معزياً: راح أحمد وبقي محمود يا عائشة.. زغرتي يا عائشة راح واحد وظل واحد.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى