أبرزرأي

فتاوى “العدل الدولية” بشأن سلوك الإحتلال الإسرائيلي

كتب حسن نافعة في “العربي الجديد”: تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم الجمعة، 30 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قرارا مهما، يقضي بطلب إصدار فتوى من محكمة العدل الدولية عن الآثار المترتبة على انتهاكات الإحتلال الإسرائيلي المستمرّة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وذلك بأغلبية 87 صوتا واعتراض 26 وامتناع 53 دولة عن التصويت. ولم يكن اتخاذ قرار أممي على هذه الدرجة من الأهمية مسألة سهلة أو ميسورة، فقد تعيّن على الدول الداعمة للقضية الفلسطينية في الأمم المتحدة خوض سلسلة من المعارك الدبلوماسية، جرت أولا داخل اللجنة الرابعة للجمعية العامة، المعنية بالمسائل السياسية الخاصة وتصفية الاستعمار، ثم انتقلت إلى الجلسة العامة المنوط بها اعتماد مشروعات القرارات المقدمة إليها من اللجان المختلفة المنبثقة عنها، بما فيها اللجنة الرابعة.

معروفٌ أن اللجنة الرابعة في الجمعية العامة للأمم المتحدة تناقش سنويا، ومنذ فترة ليست قصيرة، مشروع قرار بعنوان “الممارسات الإسرائيلية التي تمسّ حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية”، يرصد الانتهاكات للعدو الإسرائيلي المستمرّة لهذه الحقوق ويندّد بها ويدينها. ولأن العدو الإسرائيلي يدرك أن القرارات الصادرة عن الجمعية العامة الموجّهة إلى الدول الأعضاء مجرّد توصياتٍ ليس لها صفة الإلزام، فقد اعتاد على صدور هذا النوع من القرارات التي تحوّلت بالنسبة له إلى مسألة روتينية لا تؤثر على ممارساته داخل الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، غير أن الوضع اختلف بالنسبة له هذه المرّة، وخصوصا أن مشروع القرار الذي يحمل العنوان نفسه، والذي عرض للمناقشة في اللجنة الرابعة هذا العام، تضمّن فقرة جديدة (الفقرة 18) تطلب من محكمة العدل الدولية إصدار فتوى قانونية، وفقا لنص المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة، عن قضايا صيغت في سؤالين محدّدين على المحكمة أن تجيب عنهما تفصيلا:

ما هي الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمرّ لحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 واستيطانها وضمّها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعاتٍ وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟ كيف تؤثر سياسات العدو الإسرائيلي وممارساته الناجمة عن هذه الانتهاكات على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول وكذلك بالنسبة للأمم المتحدة؟

ولأن العدو الإسرائيلي يدرك يقينا أن صدور فتوى من محكمة العدل الدولية يصم احتلاله الأراضي الفلسطينية بعد 1967، والذي يخشى من تحوّله إلى احتلالٍ دائم بسبب استمراره فترة طويلة، بأنه غير شرعي، ويصم ممارساته في هذه الأراضي بأنها تشكّل انتهاكا صارخا للقانون الدولي ولاتفاقية جنيف الرابعة، ويعيق الجهود الدولية الرامية لتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير، سيكون له ما بعده، فقد كان من الطبيعي أن يشعر بالقلق، وأن يسعى، بكل ما في وسعها، للحيلولة دون تبنّي مشروع هذا القرار. غير أن كل المحاولات التي بذلها داخل اللجنة الرابعة أخفقت تماما، بدليل أنه حين عُرض للتصويت وافقت عليه 98 دولة، بينما اعترضت عليه 17 دولة فقط، وامتنعت عن التصويت عليه 52 دولة. ومع ذلك لم ييأس العدو الإسرائيلي، وراح يستنجد بالولايات المتحدة، حاميه الوحيدة الموثوقة بها في المحافل الدولية، حيث طلب منها صراحة أن تمارس أقصى ما تستطيع من ضغوط لحمْل الدول المؤيدة لهذا المشروع على تغيير موقفها حين تعرضه الجمعية العامة للأمم المتحدة للإقرار في جلستها العامة. ومن الواضح أنها حقّقت نجاحا محدودا في هذا الصدد، حيث جاءت نتائج التصويت في الجلسة العامة كالتالي: 87 دولة مؤيدة لمشروع القرار، مقابل 98 دولة مؤيدة له في اللجنة الرابعة، ما يعني أن 11 دولة غيّرت موقفها، وانتقلت بفعل الضغوط التي مورست عليها من موقف التأييد إلى موقف المعارضة أو الامتناع عن التصويت، 26 دولة اعترضت عليه، مقابل 17 دولة في اللجنة الرابعة، ما يعني أن تسع دول غيرت موقفها وانتقلت من التأييد أو الامتناع عن التصويت إلى المعارضة الصريحة، 53 دولة امتنعت عن التصويت، مقابل 52 دولة في اللجنة الرابعة، ما يعني أن دولة واحدة غيرت موقفها وانتقلت من الامتناع عن التصويت على القرار إلى معارضته صراحة.

لم تكن هذه الضغوط، على كثافتها، كافية للحيلولة دون تبنّي المشروع بصفة نهائية، ليصبح قرارا واجب التنفيذ، حيث على الأمين العام للأمم المتحدة إخطار محكمة العدل الدولية بفحواه على الفور، ومن ثم لن يكون أمام هذه المحكمة من خيار آخر سوى إصدار الفتوى المطلوبة منها، متضمّنة إجابة تفصيلية عن الأسئلة الموجهة إليها من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وخصوصا أن القرار يطالب الأمين العام للأمم المتحدة في الوقت نفسه بأن “يقدّم للجمعية في دورتها الثامنة والسبعين تقريرا عن تنفيذه، بما في ذلك انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وعلى الأراضي العربية المحتلة الأخرى”.

كلنا يتذكّر أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في جلسة طارئة عقدت عام 2003 بموجب قرار “الاتحاد من أجل السلام”، اتخذت قرارا يطلب من محكمة العدل الدولية إصدار فتوى عن مدى شرعية “الجدار العازل” الذي أقامته قوات الإحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، وهو الجدار الذي اشتهر في العالم العربي باسم “جدار الفصل العنصري”. وقد صدرت هذه الفتوى بالفعل في 9 يوليو/ تموز عام 2004، وأكّدت، بما لا يدع أي مجال للشك، ليس فقط على “عدم شرعية بناء هذا الجدار”، وإنما أيضا على أن بناءه “يهدف إلى خدمة المشاريع الاستيطانية”، وعلى أن مساره “يخلق حقائق جديدة على الأرض تؤدّي بدورها إلى التأثير على الحدود المستقبلية ما بين الأراضي المحتلة والدولة الفلسطينية”، وعلى أن الضم الفعلي لأجزاء من الضفة الغربية للعدو الإسرائيلي “يشكّل خرقا لحقّ تقرير المصير”.. إلخ.

قد يقول قائل إن صدور فتوى سابقة من محكمة العدل الدولية عن “الجدار العازل” يقترب عمرها من عقدين لم يكن له أي تأثير يذكر على السلوك الإسرائيلي اللاحق في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولم يجبر العدو الإسرائيلي على هدمه أو على تعويض الفلسطينيين المتضرّرين، كما يفهم من منطوق الفتوى، ومن ثم يتوقع ألا يبالي العدو الإسرائيلي بأي فتوى جديدة تصدر من المحكمة نفسها. ومع تسليمنا بوجاهة هذا الرأي، إلا أن علينا أن ننتبه إلى بعد آخر يتعلق بهذه المسألة، أن الفتوى المطلوبة من محكمة العدل الدولية هذه المرّة تختلف إلى حد كبير عن فتوى “الجدار العازل”. صحيحٌ أن المحكمة تعرّضت في فتواها الأولى إلى بعض الجوانب المتعلقة بممارسات العدو الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما تعرّضت، في الوقت نفسه، إلى بعض الجوانب المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في تقرير المصير، لكن الفتوى المطلوبة هذه المرّة ستمس كل جوانب القضية الفلسطينية وأبعادها، سواء تعلق الأمر بالآثار المترتّبة على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين أو على حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرّف، وبالتالي ستتعرّض حتما إلى القضايا التالية:

طبيعة الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد 67، بما فيها القدس الشرقية، وما إذا كانت الممارسات للعدو الإسرائيلي قد حوّلت هذا الوجود إلى احتلال دائم. السياسات التي ينتهجها العدو الإسرائيلي تجاه سكان هذه الأراضي، خصوصا المتعلقة بالترحيل القسري لهؤلاء السكان، وبالاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم بالقوة، أو السياسات المتعلقة بتغيير معالم المدن وتشويه التراث الفلسطيني وتهويد القدس .. إلخ، وموقف القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة من هذه السياسات. الأهداف الحقيقية للتوسّع الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي المحتلة بعد 67، والذي يؤدّي، بطبيعته، فضلا عن عدم مشروعيته، إلى تحويل الاحتلال من احتلال مؤقّت قد تكون له صلة بالضرورات الأمنية إلى احتلال دائم ينتهك القانون الدولي، ويتعارض مع روح ميثاق الأمم المتحدة ونصوصها. مظاهر التمييز التي تمارس ضد سكان الأراضي المحتلة في مختلف المجالات، المنصوص عليها في قوانين ولوائح إدارية عديدة مطبّقة في الأراضي المحتلة، والتي أشارت إليها تقارير دولية وأممية عديدة تؤكّد أن العدو الإسرائيلي يدار بنظام فصل عنصري (الأبارتهايد).

لذا نعتقد أن الفتوى الجديدة المتوقع صدورها من محكمة العدل الدولية ستؤكّد على أن السياسات للعدو الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير مشروعة، تنتهك القانون الدولي وتعتدي على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقّ تقرير المصير. صحيحٌ أن العدو الإسرائيلي سيعتبر هذه الفتوى مجرّد “رأي استشاري” ليس ملزم بتنفيذه. ولكن من المؤكّد أنه سيمنح النضال الفلسطيني زخما جديدا يسمح بمساءلة العدو الإسرائيلي وملاحقته قانونا في جميع الساحات الدولية، بما في ذلك محكمة الجنايات الدولية، بل وسيمكّن الجمعية العامة للأمم المتحدة لاحقا من مطالبة مجلس الأمن بفرض عقوبات على العدو الإسرائيلي، مثلما فعلت من قبل مع كل من جنوب أفريقيا وروديسيا حين كانتا تمارسان سياسة الفصل العنصري.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى