داعش له قول آخر

كتب فتحي أحمد, في “العرب” :
بعد عقدين من الزمن على تفكك الاتحاد السوفييتي تمكنت روسيا من إعادة صياغة سياساتها الخارجية تجاه المنطقة العربية وأعادت ترتيب أولوياتها بشكل يتناسب مع مصالحها ومصالح واهتمامات دول المنطقة.
العلاقات بين روسيا والعالم الإسلامي بدأت منذ عهد مبكر، عندما تبادل الخلفاء العباسيون السفراء معها. ومع ضم روسيا مناطق ذات غالبية سكانية مسلمة ازداد الاهتمام بدراسات الإسلام. ومع دخول المسيحية إلى روسيا عام 988 ميلادية، ترسخت علاقاتها بالشرق بشكل أقوى أكد التوجه نحو العالم العربي والإسلامي، خاصة أن العلاقات الروسية – العربية مبنية على أساس أن موسكو لم تكن يوما محتلا أو طامعا في دول المنطقة، وارتبطت بعلاقات خاصة بالكثير منها خلال الحقبة السوفييتية وما بعدها.
العالم العربي والإفريقي والإسلامي رحب بهذه العلاقات، سواء على مستوى العلاقات الثنائية أو العلاقات الإستراتيجية، خاصة مع تغيَّر الروس فكراً وثقافة ورؤية، ليصبحوا أكثر انفتاحاً وتحررا من مأزق الأيديولوجيا.
من جانبه عمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أعادة صياغة الأهداف الجديدة للسياسة الروسية، وفق مسار اتخذ طابعا قوميا استرد به توهج بلاده، وهو ما أدى أيضا إلى إحياء التعددية القطبية في النظام العالمي الجديد.
المدقق في الأحداث التي جرت في روسيا خلال الأيام الأخيرة لن يشعر بمناخ جديد فرضه داعش على العلاقة بينها والعالم الإسلامي، فالعلاقات الروسية الإسلامية جيدة، خصوصا بعد مؤتمر جدة عام 2022، الذي انطلقت من خلاله أعمال المؤتمر الدولي “روسيا والعالم الإسلامي في التعاون الإعلامي” ودعا إلى تعزيز التعاون والشراكة مع الدول الإسلامية في المجال الإعلامي، انطلاقاً من القيم والأهداف المشتركة للجانبين، وأكد خلاله نائب مدير إدارة الإعلام والصحافة إيفان نيتشايف أن بلاده فضاء متعدد القوميات والطوائف وذو تجربة تاريخية غنية للتعايش بين الثقافات المختلفة، ويعد تطوير التعاون مع العالم الإسلامي أحد أهم أولويات عقيدة السياسة الخارجية الروسية.
وعلى صعيد قضايا العرب والمسلمين، لروسيا دور مختلف عن الولايات المتحدة في بعض الجوانب. ولكن الماء يكذب الغطاس أحيانا، فنحن لن ننسى ما أحدثته آلتها العسكرية في سوريا، ولن ننسى براميل البارود الروسية التي سقطت على رؤوس السوريين من خلال ما تم رصده.
رغم ذلك ثمة قراءة مختلفة بعيدا عن العاطفة، وهي أن روسيا بوتين تحاول التسلق على أكتاف العرب، لتجد لها مكانا تحت الشمس يوصلها إلى المياه الدافئة. هذا هو الهدف الأساس، الذي دفعها لغزو العالم العربي غزواً غير مباشر، وذلك بحجة الدولة الصديقة الحريصة على تطلعات العرب السياسية والاقتصادية والأمنية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو إلى أي مدى تؤثر عملية داعش الأخيرة في موسكو على العلاقات الروسية مع العالم الإسلامي؟
لا شك أن الروس قرؤوا خارطة المشرق العربي منذ القدم، ولن يغيب عنهم حجم الفجوة الفكرية بين الإسلام المعتدل وبين إرهاب داعش. ورغم ما أشارت إليه موسكو حول وجود دعم أميركي لعملية داعش، يعتبر الروس أن العالم الإسلامي بشقيه العربي الشيعي والسني، بعيد كل البعد عن تركيبة الفكر الداعشي، لهذا لم تنعت روسيا بعد العملية الإسلام بالإرهاب كباقي الدول، بل فضلت البقاء في نفس الدائرة المتمثلة في تمتين العلاقات مع العالم الإسلامي وتفويت الفرص على من يحاول زعزعتها.
هكذا هي روسيا بعد ما يقارب عقدين من الزمن على انهيار الاتحاد السوفييتي. تمكنت من إعادة صياغة سياساتها الخارجية تجاه المنطقة العربية، وإعادة ترتيب أولوياتها بشكل يتناسب مع المصالح والاهتمامات العربية، لدرجة أنها غيرت تماماً من أسس وملامح السياسات التي كان يتبناها الاتحاد السوفييتي سابقاً.
التنافس مع الولايات المتحدة، شكل جوهر سياسة الاتحاد السوفييتي خلال سنوات الحرب الباردة، وبعد تفككه أخذت روسيا تتوجه بوتيرة متسارعة نحو تلبية مصالحها الاقتصادية، التي أصبحت بديلاً عن الأيديولوجية والخلفيات السياسية السابقة، ومن ثم شكلت هذه التحولات جوهر السياسة الخارجية الروسية وتوجهاتها نحو المنطقة العربية بالاعتماد على أدوات القوة الناعمة، لاسيما تلك المتعلقة بجذب وتوطين الاستثمارات المشتركة في قطاعي الطاقة وصناعة الأسلحة، لتستعيد معها روسيا الصورة الإيجابية لدى الشباب العربي، وهو ما يشير إلى نجاح مساعي السياسة الخارجية في الشرق الأوسط في عهد بوتين، وقدرتها على إعادة تشكيل مواقف العرب تجاه بلاده بما يعزز من مكانتها كأكبر حليف دولي في المنطقة في الوقت الحاضر، وفي المستقبل المنظور.
الخلاصة، لداعش رأي آخر مختلف عن البقية فهو يغرّد خارج السرب، لكن للآخرين تطلعات تتعارض بشكل كلي مع توجهات داعش. في تقدير المراقبين عملية موسكو لن تحرف البوصلة عن الشرق العربي والدول الإسلامية، وستبقى روسيا تقاتل حتى الرمق الأخير للاحتفاظ بعلاقات طيبة مع العالم العربي والإسلامي.