رأي

حبذا لو يُحاكمون على سياساتهم الخارجية

كتب د. صبحي غندور في صحيفة “رأي اليوم”:

هي المرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة التي يقف فيها رئيس أميركي سابق أمام محكمة بعد لائحة إتهامات جنائية صوّتت عليها هيئة محلفين كبرى في نيويورك ضد دونالد ترامب.

أيضاً، حاول مجلس النواب الأميركي في العام 2019، والذي كانت غالبيته من “الحزب الديمقراطي، إمكانية عزل الرئيس الأميركي آنذاك، دونالد ترامب عن منصبه بسبب ما اعتبره النواب الديمقراطيون استغلالاً من ترامب لموقع الرئاسة من أجل مصالح شخصية وانتخابية، ومن إعاقة لدور الكونغرس.

فقط ثلاثة رؤوساء في الولايات المتحدة تعرّضوا في السابق لمحاولات العزل من قبل الكونغرس، وفشلت هذه المحاولات أولاً مع الرئيس أندرو جونسون (في العام 1868) عقب الحرب الأهلية الأميركية، ثمّ مع الرئيس بيل كلينتون (في العام 1998)، بينما أدّت تحقيقات الكونغرس إلى دفع الرئيس ريتشارد نيكسون للاستقالة من منصبه (في العام 1974). وفي هذه الحالات الثلاث كلّها كانت أسباب محاولات العزل تتعلّق بقضايا سياسية داخلية، حيث لم تشهد الولايات المتحدة في تاريخها أي محاسبة دستورية لأي رئيس أميركي نتيجة سياسة خارجية أو حروب قرّر هذا الرئيس الأميركي أو ذاك خوضها.

جيمس ماديسون، المعروف بأبي الدستور الأميركي، كان الرئيس الرابع في الولايات المتحدة (1809-1817)، أعلن الحرب ضدّ بريطانيا في العام 1812 وقرّر الهجوم على المستعمرات البريطانية في كندا، فردّت القوات البريطانية بالهجوم على العاصمة واشنطن وأحرقت “البيت الأبيض” ومبنى الكونغرس والكثير من المؤسّسات الحكومية ممّا اضّطر الرئيس الأميركي وأركان إدارته إلى الفرار من العاصمة، ولم نشهد بعد ذلك أي محاسبة للرئيس ماديسون على قراره بالحرب على بريطانيا أو على قرار غزوه الأراضي الكندية وإحراق مبانٍ رسمية فيها.

هاري ترومان، الرئيس الأميركي (1945-1953)، اشتهر بأنّه الذي أمر بقصف هيروشيما وناكازاكي بقنبلتين ذرّيتين لإجبار اليابان على الاستسلام في الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الذي لم يشهد قبله وبعده أي استخدام للسلاح النووي. ولم يتعامل الأميركيون والكونغرس مع هذا الأمر بمثابة جريمة إنسانية بحقّ عشرات الألوف من المدنيين اليابانيين الأبرياء الذين قتلوا أو تشوّهت أجسادهم نتيجة استخدام القنابل الذرّية الحارقة. وقد جرى انتقاد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، إبّان فترة حكمه، من عدّة أوساط أميركية، لأنه أبدى اعتذاراً لليابان خلال زيارةٍ لها عمّا قامت به الولايات المتّحدة خلال الحرب العالمية الثانية!.

ليندون جونسون، كان نائباً للرئيس الأميركي جون كندي (جرى اغتياله في العام 1963)، وحكم الولايات المتّحدة إلى مطلع العام 1969، قرّر زيادة حجم التورّط العسكري الأميركي في حرب فيتنام، على عكس مواقف الرئيس كندي، وأدّت هذه الحرب إلى سقوط عشرات الألوف من الجنود الأميركيين بين قتيلٍ وجريح، ولم تتمّ محاسبته على ما جرى من خسائر أميركية في الحرب الفاشلة ضدّ فيتنام الشمالية.

جورج بوش الابن (الرئيس الأميركي من العام 2001 إلى العام 2009) ونائبه تشيني، ووزير دفاعه رامسفيلد والعديد من أركان إدارته الذين عُرفوا باسم “المحافظين الجدد”، ارتكبوا العديد من الجرائم بحقّ مئات الألوف من العراقيين في الحرب على العراق بالعام 2003 بحجّة وجود أسلحة الدمار الشامل، والتي ثبت بطلانها، وحيث نتج عن هذه الحرب أيضاً خسائر أميركية كبيرة في الأرواح وفي الاقتصاد ولم تتمّ معاقبة أيٍّ من المسؤولين عنها.

هذه نماذج من سياسات خارجية أميركية، أو حروبٍ أقرّها رؤوساء أميركيون في القرنين السابقين والقرن الحالي، ولم تحصل أي معاقبة لهم على ما سبّبوه من خسائر بشرية وأضرار مادية لأميركا ولدولٍ أخرى. ولم تقم الولايات المتحدة حتّى الآن بأي تعويضٍ مالي على نتائج بعض حروبها أو سياساتها الخارجية التي كانت مخالفة للمرجعيات الدولية.

ربّما سبب المشكلة هو هيمنة شركات ومصانع كبرى في الولايات المتحدة على مراكز صنع القرار وعلى أعضاء الكونغرس وعلى المؤسّسات الإعلامية، وبالتالي تتعطّل المحاسبة على مسؤولية الحروب ويُصبح المواطن الأميركي مسيّراً خلف قيادته في كل ما يتعلّق بالسياسات الخارجية.

وقد حاولت عدّة مؤسّسات إعلامية أميركية فضح بعض ما تمارسه الإدارات الأميركية من تضليل سياسي ومعلوماتي عن حروبها الخارجية، لكن ذلك لم يصل إلى حدّ المحاسبة الدستورية والقانونية للمسؤولين عن هذا التضليل أو عن تلك الممارسات المسيئة لأميركا ولشعوب أخرى. فهذا ما حصل حينما فضحت وسائل إعلام أميركية ما كان يجري من تعذيب في سجن “أبو غريب” في العراق، أو ما جرى في سجن غوانتنامو، أو ما جرى كشفه من وسائل تعذيب أشرفت عليها وكالة المخابرات الأميركية، أو ما كان له صلة بحروب أميركا في فيتنام والعراق وأفغانستان من نشر معلومات كاذبة عن حقيقة الأوضاع ونتائج الحروب.

والحقائق التي تكشفها وسائل إعلام أميركية عن حروب أميركا الخارجية تتحوّل عادةً إلى أفلام وكتب وثائقية ولا تصل إلى مستوى الملاحقة القانونية لمرتكبي المخالفات على المستويات العليا من الحكم. وبذلك تتأكّد حرّية الكلمة للإعلام الأميركي في أن يُحاسب، مقابل حرّية الفعل للحاكم بدون محاسبة قانونية على افعاله!.

ربّما تحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى المزيد من كشف الحقائق المتعلّقة بمخاطر سياسات أميركية جرى تنفيذها في العقود الماضية داخل المنطقة العربية وجوارها الإسلامي، بعدما اتّصفت هذه المناطق بأنها بؤر أزمات وصراعات ومصدر إرهاب على العالم كلّه.

فالولايات المتحدة كانت مسؤولةً بشكلٍ كبير عن توظيف حركات سياسية ذات صبغات دينية خلال حقبة “الحرب الباردة” مع المعسكر الشيوعي وضدّ تيّار القومية العربية، هذه الحركات التي تحوّل بعضها إلى جماعات عنفٍ وإرهاب، كما حدث مع “المجاهدين الأفغان” الذين كانوا نواة تنظيم “القاعدة”، وهو الذي أفرز لاحقاً تنظيم “داعش” و”جبهة النصرة”.

والولايات المتّحدة كانت مسؤولةً أيضاً عمّا حدث ويحدث في العراق وفي سوريا وفي بلدان أخرى بالمنطقة، نتيجة السياسات الأميركية التي اتّبِعت منذ مطلع القرن الحالي، والتي استفادت منها إسرائيل فقط، وهي السياسات التي خطّط لها “المحافظون الجدد” وجماعات أميركية/صهيونية منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، بالتنسيق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو (راجع:Clean Break)، والتي جرى البدء بتنفيذها عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، ثمّ من خلال غزو العراق، ثمّ بدعم الحروب الإسرائيلية على لبنان وفلسطين، ثمّ بالمراهنة على إسقاط أنظمة عن طريق العنف المسلّح وبدعمٍ لجماعات دينية سياسية، وبالمساعدة على إشعال أزماتٍ داخلية، وبتوظيف المشاعر الطائفية والمذهبية في المنطقة العربية.

وفي مقدّمة هذه الأمور، التي سبّبت وتسبّب حالات عدم الاستقرار في منطقة “الشرق الأوسط”، هو الدعم الأميركي الكبير لإسرائيل والذي بلغ مداه الأقصى خلال عهد ترامب، حيث تبنّى الرئيس الأميركي السابق الأجندة الكاملة لليمين الإسرائيلي المتطرّف بزعامة نتنياهو، والذي عاد للحكم الآن على رأس حكومة فاشية عنصرية تستبيح قتل الفلسطينيين يومياً دون رادع عربي أو دولي لها غير ابطال المقاومة في الأراضي المحتلة.

وقد حصدت الولايات المتحدة وقوى دولية وإقليمية نتائج سلبية على مصالحها بعدما زرعت أيديها بذور هذه الأزمات المستمرّة حتّى الآن. لكن الخطر الأعظم، كان وما زال، هو على شعوب المنطقة العربية وأوطانها، ممّا يتطلّب من الحاكمين والمعارضين فيها وعياً وطنياً وقومياً يتجاوز حدود المصالح الفئوية، والأمل كبير الآن بالمؤشرات الإيجابية التي بدأت تحدث مؤخرأ على أكثر من صعيد عربي.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى