هل بمقدور الديمقراطيين تقبّل ما هو واضح؟

كتب روس دوثات في صحيفة نيويورك تايمز.
أشدُّ الأمور وضوحاً في السياسة غالباً ما تكون الأصعب قبولاً؛ إذا خسرتَ انتخابات، فإنَّ أفضلَ ما يمكنك فعله لضمان الفوز في المرة المقبلة، أن تجدَ رسالة تجعلك أقربَ إلى الفئة الوسطى من الناخبين مما كنت عليه في المرة السابقة.
بالتأكيد هذا ليس السبيل الوحيد للفوز، لأنَّ رسالتك قد تتبيَّن أنَّها أقل أهمية من الظروف الاقتصادية العامة أو تفجر سلسلة من الفضائح أو وقوع غزو مفاجئ من كائنات فضائية. ومع ذلك، تظلّ الحقيقة أن مسألة إعادة التموضع تُعد من أهم الأمور التي يمكنك فعلياً التحكم فيها، والسبيل الأوضح لتُظهر للجمهور أنَّك تعلمتَ من الانتكاسة التي مُنيت بها، والطريقة الطبيعية لإقناع الناخب المتردد بأن يتحرَّك في اتجاهك.
غير أنَّ الانتقالَ نحو الوسط يعني، بحكم التعريف، التحرك في اتجاه الحزب الآخر – نحو العدوّ المكروه، وبعيداً عن أكثر مؤيديك حماسة. وبالطبع، لا أحد يرغب في فعل ذلك! ولهذا، نجد أنه في أوقات الهزيمة السياسية، هناك رغبة لا تنضب للبحث عن وصفات تطمئن أعضاء الحزب المهزوم، بأنَّ كل ما عليهم فعله أن يتحلّوا بصدق أكبر مع أنفسهم، وقدر أكبر من الفعالية والحزم. وبالتأكيد، لا يرغب أيُّ سياسي طموح أن يكون أولَ من يمحق هذه الآمال.
هذا تحديداً الوضع النفسي الذي يجد فيه كثير من الديمقراطيين أنفسهم اليوم. من الواضح تماماً أنَّ الحزب خسر عام 2024، لأنه بالغ في التزام عدد من المواقف اليسارية غير الشعبية، بعضها أسفر عن نتائج كارثية على صعيد السياسات (مثل موجة الهجرة في عهد جو بايدن)، في حين أن مواقف أخرى أقنعت فئاتٍ سبق أن صوتت للديمقراطيين بأن الحزب بات يولي اهتماماً أكبر بالتغييرات المناخية وقضايا مختلفة، يتركز عليها اهتمام الدوائر الأكاديمية، كاهتمامه بالطاقة الرخيصة والوظائف ذات الأجور المجزية.
وإذا لم يكن هذا الأمر واضحاً لك لسبب ما، أوصي بأن تطّلع على تقرير جديد بعنوان «القرار من أجل الفوز»، صادر عن مجموعة تدعى «Welcome»، تنتمي لتيار يسار الوسط، تحاول تقديم حالة تشخيصية شاملة مدعومة بالبيانات تؤكد ما ذكرته للتو.
ونظراً لاعتقادي بأن هذه الحالة يجب أن تكون واضحة لأي شخص ذي بصيرة، فقد استوقفني أكثر ردّ فعل الديمقراطيين الآخرين على هذا التقرير، وليس النشطاء المحترفين فقط، بل كذلك عدد من الصحافيين والمحللين والأكاديميين، الذين غالباً ما يكونون أشخاصاً شديدي الذكاء، ومع ذلك يبدون ملتزمين بشدة بسرد أي قصة أخرى غير القصة البديهية.
بعض الأحيان، تحاول هذه الروايات التقليل من أهمية تموضع الديمقراطيين؛ فالاعتدال لا يساوي سوى بضع نقاط في استطلاعات الرأي؛ والحملات الفردية لا تُحدث اختلافاً يذكر. وأحياناً يقترحون وجود مشكلة أكبر يجب التعامل معها بدلاً من ذلك، مثل البيئة الرقمية الإعلامية بأكملها، أو النظام ثنائي الحزب في عصر الاستقطاب. ومع ذلك، يكون الهدف الحقيقي في كل حالة التهرب، من خلال تقديم أمر آخر، قد يكون صحيحاً إلى حد ما، للتعتيم أو تقليل أهمية حقيقة مفادها أن الحزب الديمقراطي سيستفيد كثيراً من تحركه قليلاً نحو اليمين.
من جهتي، أعي تماماً هذا الأمر، لأنها كانت الطريقة التي تحدث بها كثير من المحافظين بعضهم مع بعض، في عصر حزب الشاي (Tea Party) عندما أقنع الحزب الجمهوري، الذي تحطم بفعل حرب العراق والأزمة المالية، نفسه، بأن جورج دبليو بوش قد فشل فقط، لأنه كان «ليبرالياً داعماً لفكرة الحكومة الكبيرة»، بينما كان ما تريده البلاد حقاً شكلاً أشد صرامة من التوجهات المحافظة التي تُقلِّص الحكومة.
اليوم، لم نصل بعد إلى مستويات «حزب الشاي» من العمل المتمرد داخل الائتلاف الديمقراطي، لكن الجو العام الموجود بوضوح يدور حول طلب مستمر على «المقاتلين»، واستعداد للتمسك بالمرشحين السيئين في انتخابات يمكن الفوز فيها، وبيئة لا يرغب فيها أحد حتى السياسيون المعتدلون، في إثارة النزاعات مع قاعدة الحزب.
من جهته، يعاني الحزب الجمهوري بقيادة ترمب من مشكلات تخلق طريقاً ما للعودة إلى البيت الأبيض أمام الديمقراطيين عام 2028.
إلا أن النجاحات المؤقتة لـ«حزب الشاي» اصطدمت في النهاية بالواقع المرير، المتمثل في أن واشنطن لا تريد أن يحكمها حزب يتحدث عن الاقتصاد، مثل جون جالت من مؤسسة «آين راند».
وبالمثل، لا أرى كيف يمكن لحزب ديمقراطي «مقاتل» أن يأمل في استعادة مجلس الشيوخ، ناهيك عن بناء ما يدّعي كل ليبرالي محارب أنه يريده، أي نوع من الأغلبية الدائمة التي يمكن أن تهمش بالفعل الترمبية والشعبوية، إذا لم يعترف أمام نفسه أولاً بأن ما حدث عام 2024 لم يكن يتعلق بعمر بايدن أو خوارزمية إيلون ماسك فقط، وإنما كان كذلك بمثابة استفتاء آيديولوجي خسرت فيه التوجهات التقدمية.



