هل العقوبات ستُركع «موسكو»؟!

كتبت لما جمال العبسه في صحيفة الدستور.
بينما يواصل حلف شمال الاطلسي «الناتو» تحت مظلة الولايات المتحدة الامريكية فرض عقوبات متصاعدة على شركات الطاقة الروسية، في محاولة لخنق عائدات موسكو النفطية وعرقلة قدرتها على تمويل الحرب، تكشف الوقائع الجارية عن مشهد أكثر تعقيدا من مجرد تراجع في الطلب أو عزلة اقتصادية، ذلك ان روسيا التي استبقت هذه الضغوط بتحولات استراتيجية في بنيتها الاقتصادية وتحالفاتها الدولية، لا تزال تحتفظ بأدوات فعالة للتأثير في أسواق الطاقة، وتعيد تشكيل موقعها العالمي بطرق لا يمكن تجاهلها.
الأهم من ذلك أن هذا التفاعل لا يحدث في فراغ، بل في سياق عالمي يتجه بثبات نحو تعدد الأقطاب، فالدول التي تسعى إلى تقليص اعتمادها على الغرب، مثل روسيا والصين، لا ترى في العقوبات نهاية الطريق، بل حافزا لتسريع مشاريع الاكتفاء الذاتي، وتعزيز التعاون جنوب-جنوب، وتوسيع نطاق الشراكات الاستراتيجية خارج المنظومة الغربية.
وفي هذا السياق، برزت الصين كمحور رئيسي في معادلة العقوبات، بعد ان اعلنت شركات التكرير الصينية الكبرى، مثل سينوبك وبتروتشاينا، عن إلغاء شحنات نفط روسي بعد إدراج شركات مثل روسنفت ولوك أويل في قوائم العقوبات الغربية. حتى المصافي الخاصة الصغيرة، المعروفة باسم Teapots «أباريق الشاي» أصبحت أكثر حذرا، خشية التعرض لعقوبات مشابهة لتلك التي طالت شركة شاندونغ يولونغ. ورغم أن هذا الانسحاب الجزئي من السوق الروسية بدا وكأنه انتصار رمزي للعقوبات، إلا أن الواقع أكثر التباسا، فشركة يولونغ نفسها وبعد أن ألغى الموردون الغربيون شحناتها اتجهت بشكل كبير نحو النفط الروسي كخيار اضطراري، في ظل غياب البدائل، وهذا يعكس أن العقوبات وإن أربكت بعض خطوط التوريد، لم تكسر العمود الفقري للطاقة الروسية.
وعمّقت موسكو شراكتها مع بكين في مجالات تتجاوز الطاقة التقليدية، ففي الاجتماع الثاني عشر للجنة الحكومية الروسية الصينية للتعاون الاستثماري مؤخرا اُعلن عن أن التعاون بين البلدين يتوسع بثقة في مجالات استراتيجية مثل صناعة الطيران، الفضاء، الذكاء الاصطناعي، الاقتصاد الرقمي، والتعدين الصديق للبيئة، هذا التنويع في مصادر الدخل الروسي لا يخفف فقط من أثر العقوبات الغربية، بل يعيد صياغة العلاقة مع الصين على أسس تكنولوجية واستثمارية طويلة الأمد، تتجاوز منطق المورد والمستهلك.
في الوقت ذاته، لا تزال روسيا تحتفظ بنفوذها داخل تحالف «أوبك+»، الذي يشكل منصة مركزية لضبط إيقاع السوق النفطية العالمية، ولا ادل من قرار دول «أوبك+» امس الاول زيادة إنتاجها بمقدار 137 ألف برميل يوميا الشهر المقبل، منها 41 ألفا من روسيا وحدها، هذا القرار الذي جاء رغم الضغوط الغربية، يعكس قدرة موسكو على التأثير في معادلة العرض والطلب، ليس فقط كمنتج، بل كصانع توازنات، كما أن تجميد أي زيادات إضافية حتى أذار المقبل يمنح روسيا وقتا لإعادة تموضعها دون أن تفقد موقعها داخل المنظومة.
ما يحدث ليس تراجعًا روسيا بل إعادة تموضع محسوبة، فبين انسحاب جزئي للمشترين، توسع في الشراكات غير النفطية، واستمرار النفوذ داخل «أوبك+»، تثبت موسكو أنها لا تزال لاعبا محوريا في معادلة الطاقة العالمية، العقوبات قد تعرقل لكنها لا تُركع، خاصة حين تكون الدولة المستهدفة قد استبقت الهجوم بتنويع مصادر دخلها، وتعزيز تحالفاتها، وتثبيت موقعها داخل المنصات الدولية المؤثرة.
في ظل هذا المشهد، تبدو محاولات عزل روسيا اقتصاديا أقرب إلى إدارة أزمة طويلة الأمد منها إلى حسم استراتيجي، وهو ما يفرض على صناع القرار الغربيين إعادة تقييم أدواتهم، وعلى المراقبين الاقتصاديين قراءة أعمق لتوازنات القوة في عالم ما بعد العقوبات.




