أبرزرأي

معادلة ماكرون الجديدة.. التحرر الأوروبي في مقابل الحمائية والتفرّد الأميركيَّين

كتب وسام اسماعيل في “الميادين نت”: لم يكن متوقعاً أن تنتهي تداعيات صفقة أوكوس التي جاءت على حساب فرنسا بهذه الطريقة، بحيث إن المبادرة إلى إعادة الدفء إلى العلاقة بين الطرفين لم تكن نتيجة مبادرة أميركية تعبّر عن اعتذار بسبب طريقة استبعاد فرنسا عن مشاركة الدول الخمس، أي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا، أي ما يُعرف بالعيون الخمس. وإذا كانت الدولة الفرنسية امتعضت نتيجة إقصائها عن صفقة تتجاوز قيمتها 37 مليار دولار، فإن ما أمكن لمسه، من جانب فرنسا، يتعدى إشكالية صفقة مالية قد تنعش القطاع العسكري الفرنسي، بحيث إن ما برز يؤكد أن الهدف في الدرجة الأولى كان يتعلق باستبعاد فرنسا عن مشاركة الدول الخمس في معلومات استخبارية تتعلق بتقنيات شديدة الحساسية، بحيث تعدّها واشنطن ضرورية لمواجهة الصين، ولا يمكن أن يؤتمن عليها إلّا أقرب الحلفاء.

بطبيعة الحال، لم تكن العلاقات الأميركية الفرنسية وطيدة وموثوقة في الإجمال، بحيث إن المعارضة الفرنسية لخطط الولايات المتحدة الأميركية الاستراتيجية في القارة الأوروبية وخارجها، كانت دائماً حاضرة. فالجنرال ديغول اتّجه في ستينيات القرن العشرين إلى الانسحاب من قيادة حلف الناتو العسكرية بسبب رفض الولايات المتحدة الأميركية دمج الردع النووي الفرنسي في قوى حلف شمال الأطلسي الأخرى. من ناحيته، لم يكن جاك شيراك أكثر انفتاحاً، بحيث عبّر عن تعقيدات علاقات بلاده بالولايات المتحدة في تصريحه عام 1995 بأن العلاقات بين البلدين كانت وستظل دائماً متعارضة وممتازة. وفي هذا الإطار، لم يكن التوافق بين الطرفين حاضراً في المحطات الكبرى، بحيث عارضت السياسة الفرنسية الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وكذلك عارضت سابقاً طريقة إدارة العمليتين السياسية والعسكرية في البلقان عام 1999، ولم يكن الأمر مغايراً عام 2018، عندما انسحب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من خطة العمل المشتركة لعام 2015.

بالطبع، لا يمكن اعتبار الموقف الفرنسي بشأن أهمية احترام الشرعية الدولية وضرورة اعتماد آلية عمل الأمم المتحدة لتسوية النزاعات الدولية موقفاً واقعياً يصدر عن دولة كفرنسا، التي تميزت دائماً باستراتيجياتها الخارجية القائمة على أسس المصلحة القومية. فالمحددات الخارجية، التي حكمت سياساتها الخارجية، لم تكن بعيدة عن منطق الأمن القومي وضرورة المحافظة على الإرث التوسعي والنفوذ الحيوي، اللذين امتدّا من آسيا إلى أفريقيا وأوروبا. وإذا كانت الإدارات الفرنسية المتعاقبة في فترة ما بعد الحرب الباردة آثرت تبني رؤية يمكن تصنيفها، من حيث الشكل، في إطار السعي لتحقيق تكامل أوروبي مستقل عن أي مؤثر خارجي، فإن ذلك لم يكن إلّا محاولة لبناء حيثية أوروبية قادرة على أن تحل مكان الدور الفرنسي المفقود والمستحيلة إعادته في ظل التفوق والهيمنة الأميركيَّين.

وإذا كان الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي صُنِّف في إطار المقربين إلى الإدارة الأميركية في ظل الرئيس الأسبق باراك أوباما، فقد كان ذلك نتيجة قناعته بإمكان البحث عن المصلحة الفرنسية في ظل المشروع الأميركي الذي ظهّره باراك أوباما تحت عناوين ناعمة، كنشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب وترسيخ دور حلف شمال الأطلسي، بالإضافة إلى قراره الانسحاب من العراق. بالطبع، بقي فرانسوا هولاند قريباً من هذا التوجه إلى أن انتُخب دونالد ترامب، بحيث بدأت تظهر الشكوك التي كانت مقدمة انفصال فرنسي عن الواقع الأميركي، بحيث إن مجموعة من تصريحات ترامب تمّ تصنيفها بأنها متعارضة مع القيم والمصالح التي تتقاسمها فرنسا مع الولايات المتحدة الأميركية. 

لم يكن موقف الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون متبايناً عن موقف سلَفه لناحية اعتبار رؤية ترامب مضرّة بالبناء النظري للاستراتيجية الغربية، بحيث إنه عارض سياسة ترامب الخارجية التي كانت تتسم بالتصعيد وبالانكفاء نحو الداخل، عبر إمعانه في اتخاذ قرارات منفردة من دون التشاور مع الحلفاء، وخصوصاً فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني أو الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، أو حتى بالنسبة إلى غيرهما من الملفات، كالعلاقة بالصين أو روسيا.

وعلى الرَّغم من التغيير الذي طال الإدارة الأميركية نتيجة خسارة دونالد ترامب أمام الرئيس جون بايدن، فإن فرنسا لم تستطع أن تتخطى إشكالية العقلية الأميركية المنغلقة ضمن حدود المصلحة والأمن القومي الأميركي. فالسعي الأميركي لتحقيق غاياته الاستراتيجية لم يراعِ، عبر مسار الأحداث المعاصرة، مصالح الحلفاء، بحيث إن الإدارات الأميركية، على الرغم من إظهارها الحرص على مصالح حلفائها، لم تأخذ في اعتبارها ما يضمن عملياً هذه المصالح. فهي لم تتوان عن التضحية بهذه المصالح وإلحاق الضرر بها متى تطلّبت حاجاتها ذلك. 

فالخيار الأميركي، في مواجهة الدولة الروسية عند الحدود الشرقية لأوروبا، لم يكن نتيجة قرار يعبر عن توافق جماعي أوروبي وأميركي، أو يراعي ظروف الحلفاء في الضفة الشرقية للأطلسي. فالدول الأساسية في الاتحاد الأوروبي، وخصوصا ألمانيا وفرنسا، بذلت جهوداً لإيجاد حلول لهذه الأزمة، وفق قراءة متباينة عن قراءة حليفها الأميركي، وذلك عبر تواصل شبه يومي مع فلاديمير بوتين والقيادة الروسية، فلقد كانت هذه الدول متيقنة أن امتداد هذه الحرب سيؤثّر سلباً في تماسكها وأمنها.

غير أن الواقع أثبت عدم فعالية تلك الجهود. فإلزام الدول الأوروبية، عبر حثها وممارسة الضغوط عليها، بتقديم الدعم العسكري إلى أوكرانيا وفرض حظر معقد على النفط والغاز الروسيَّين، على نحو يجافي المنطق والعقلانية، لناحية أن الحاجة الأوروبية إلى مصادر الطاقة الروسية تكاد تصنَّف بأنها مصيرية، أكد أن تعامل الإدارة الأميركية الحالية مع الأزمة الأوكرانية وتداعياتها لم يكن محكوماً إلّا بضرورات المحافظة على المصلحة القومية والمجتمعية الأميركية بعيداً عن مراعاة ظروف أوروبا المعقدة. 

بناءً عليه، يمكن تصنيف الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للولايات المتحدة في خانة محاولة التأثير في الإدارة الأميركية، عبر تنبيهها لخطورة المسار الأميركي المتعلق بالأزمة الأوكرانية وتداعياتها الأمنية والاقتصادية. وإذا كان الإعلام العالمي ركّز على قانون خفض التضخم الأميركي، الذي يؤكد تحوّل الولايات المتحدة الأميركية نحو سياسة حمائية انعزالية ذات تأثير سلبي في الاقتصادين الأوروبي والفرنسي، فإن الرئيس الفرنسي هدف، من خلال زيارته الولايات المتحدة الأميركية، إلى إثارة موضوع النظام الأمني المستقل عن حلف شمال الأطلسي، على نحو يمكن أن يمنح روسيا ضمانات يرفضها حلف شمال الأطلسي.

بناءً عليه، يمكن القول إن الأزمة الأوكرانية وتداعياتها دفعت فرنسا إلى محاولة الضغط على الولايات المتحدة الأميركية من خلال فرض معادلة يمكن اختصارها في أن التفرد الأميركي وسياساته الحمائية والانعزالية سيقابلها مسعى فرنسي لإقناع أوروبا بضرورة الانفصال أمنياً، وبالتالي سياسياً واقتصادياً، عن الولايات المتحدة الأميركية

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى