
كتب د. إيراهيم العثيمين في صحيفة الشرق الأوسط.
منذ انعقاد القمة الأولى في أبوظبي عام 1981م، التي أرسى فيها قادة دول الخليج صيغةً تعاونية تضم الدول الست، بهدف «تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين دولهم في جميع الميادين وصولاً إلى وحدتها، وذلك وفق ما نص عليه النظام الأساسي للمجلس في مادته الرابعة»، تواصل انعقاد القمم بين قادة دول الخليج، لتحقيق هذا الهدف المنشود الذي يتطلع له مواطنو دول المجلس كافة. وتأتي قمة الكويت التي تستضيف الدورة الـ45، يوم الأحد 1 ديسمبر (كانون الأول)، استكمالاً لهذه الغاية الكبرى، خاصة في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة والتحديات التي تجعل من التعاون والتكامل ضرورةً استراتيجية لمواجهة الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تواجه المنطقة. وهنا تبرز قضايا الأمن الإقليمي، والتعاون العسكري، والتكامل الاقتصادي، وتعزيز الشراكات الدولية كركائز أساسية لمسيرة التعاون الخليجي.
تواجه دول مجلس التعاون الخليجي جملة من التحديات المعقدة التي تهدد أمنها واستقرارها، بدءاً من التدخلات الخارجية ومحاولات تقويض سيادة الدول، وصولاً إلى التهديدات الأمنية غير التقليدية مثل الإرهاب والجريمة المنظمة. وفي استجابة استراتيجية لهذه التحديات، جاءت رؤية مجلس التعاون للأمن الإقليمي، التي أُقرت في ديسمبر 2023 خلال الدورة 158 للمجلس الوزاري في الدوحة، وتم إطلاقها رسمياً في مارس (آذار) الماضي خلال حفل أقيم في مقر الأمانة العامة بمدينة الرياض، بحضور عدد من كبار المسؤولين في وزارات الخارجية بدول المجلس، إلى جانب دبلوماسيين وخبراء في المجال. وقبل إصدار هذه الرؤية كوثيقة رسمية، كانت ملامح رؤية المجلس للأمن الإقليمي تتجلى في البيانات الختامية الصادرة عن المجلس الأعلى عقب القمم السنوية لقادة دول المجلس، وأيضاً في بيانات المجلس الوزاري التي تُنشر عقب اجتماعات وزراء الخارجية التي تُعقد كل ثلاثة أشهر. تستند الرؤية إلى ثلاثة محاور أساسية: أولاً، تنسيق المواقف بين دول مجلس التعاون بشأن القضايا الإقليمية والدولية، مما عزز قدرتها على تبني مواقف موحدة تجاه التحديات المشتركة. ثانياً، الالتزام بمبادئ القانون الدولي واحترام سيادة الدول وحل النزاعات عبر الحوار الدبلوماسي، حرصاً على أمن المنطقة واستقرارها. ثالثاً، تعزيز مفهوم الأمن المشترك استناداً إلى النظام الأساسي لمجلس التعاون واتفاقية الدفاع المشترك، بما يعكس مبدأ المصير الواحد لدول المجلس. وتُعد هذه الرؤية خارطة طريق متكاملة لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي من خلال التعاون الجماعي والحوار الدبلوماسي.
على الصعيد العسكري، شكّل التعاون الدفاعي بين دول المجلس ركناً أساسياً منذ الاجتماع الأول لرؤساء أركان القوات المسلحة الذي عُقد في الرياض عام 1981. ومنذ ذلك الحين، شهدت هذه الجهود تطوراً ملحوظاً بدءاً من توقيع اتفاقية الدفاع المشترك عام 2000 في المنامة، التي أكدت التزام الدول بالدفاع الجماعي، مؤكدة التزام الدول الأعضاء بالدفاع عن أمنها ككتلة موحدة وصولاً إلى إقرار الاستراتيجية الدفاعية في عام 2009 بالكويت، التي حددت رؤية شاملة لتعزيز التنسيق العسكري والتكامل الدفاعي لمواجهة التحديات الأمنية.
شهدت هذه المسيرة أيضاً إنشاء «قوات درع الجزيرة المشتركة» عام 1982، التي تطورت لاحقاً لتشمل إسناداً جوياً وبحرياً، وأضيفت إليها قوة تدخل سريع في 2009. وفي عام 2013، تم تطويرها لتصبح القيادة البرية الموحدة، مع إقرار إنشاء القيادة العسكرية الموحدة لدول المجلس في العام نفسه.
أما في الجانب الاقتصادي، فقد أرسى النظام الأساسي لمجلس التعاون، جنباً إلى جنب مع الاتفاقية الاقتصادية وقرارات المجلس الأعلى، الإطار المرجعي للتكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء. وقد حددت المادة الرابعة من النظام الأساسي تحقيق التنسيق والتكامل بين الدول الأعضاء في مختلف المجالات، بما يشمل الاقتصاد، والتجارة، والجمارك، والتعليم؛ بهدف تعزيز الوحدة الخليجية. كما يركز النظام على دعم التقدم العلمي والتقني، وتشجيع المشاريع المشتركة، وتعزيز دور القطاع الخاص، لتحقيق التنمية المستدامة لما فيه خير شعوب المنطقة. ومن أبرز الإنجازات خلال الفترة الماضية إنشاء هيئة الشؤون الاقتصادية والتنموية في القمة التشاورية السادسة عشرة بجدة، التي تهدف إلى إزالة العقبات أمام التكامل الاقتصادي الخليجي، وتفعيل مشاريع مثل الاتحاد الجمركي، والسوق الخليجية المشتركة، والعملة الموحدة. في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عُقد الاجتماع السادس للجنة التحضيرية الدائمة للهيئة؛ حيث ناقش تطورات خطة بناء النموذج الاقتصادي الخليجي، إلى جانب مفاوضات التجارة الحرة والسوق المشتركة. ومن المتوقع أن تلعب الهيئة دوراً حاسماً في تقريب وجهات النظر بين اقتصادات الدول الأعضاء، ودفع عجلة المشاريع المتعطلة، وصولاً إلى تحقيق التكامل الاقتصادي الخليجي المنشود، بما يعزز رفاه شعوب المنطقة ويدعم استقرارها.
أما على المستوى الدولي، فقد أسهمت الحوارات الاستراتيجية في تعزيز علاقات مجلس التعاون مع القوى الكبرى والمنظمات الإقليمية مثل الصين واليابان وأستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرها، مما يعكس التزام دول المجلس الانفتاحَ على العالم لتوسيع مصالحها المشتركة في مختلف المجالات. وقد أظهرت هذه الحوارات قدرة دول المجلس على صياغة سياسات تعاونية تُسهم في تحقيق أهدافها الجماعية، من خلال وضع خطط عمل مشتركة في مجالات متنوعة، مع تحديد برامج زمنية لتنفيذها، مما يعزز من كفاءة التنسيق مع الشركاء الدوليين. وقد كانت القمة الخليجية الأوروبية المشتركة الأولى، التي عقدت في 16 أكتوبر 2024 بمدينة بروكسل تحت عنوان «الشراكة الاستراتيجية من أجل السلام والازدهار»، واحدة من أبرز نتائج هذه الحوارات الاستراتيجية. فقد مثلت هذه القمة نقلة نوعية في مسار العلاقات الخليجية الأوروبية؛ حيث أتاحت منصة للحوار البناء وتوسيع آفاق التعاون في القضايا ذات الاهتمام المشترك، مما يعكس رؤية دول المجلس لتعزيز شراكاتها الإقليمية والدولية كجزء من استراتيجيتها لتحقيق الأمن والاستقرار والازدهار.
تُبرز قمة الكويت الـ45 أن التعاون الخليجي الممتد منذ عام 1981 ليس مجرد إطار سياسي واقتصادي، بل هو تعبير عن إرادة مشتركة لتحقيق الأمن والاستقرار والازدهار لشعوب المنطقة، خاصة في ظل التحديات والفرص التي تتطلب المزيد من التنسيق والوحدة.