رأي

فك الاشتباك التركي العربي

كتب مهنا الحبيل في “العربي الجديد”:

تُنشر هذه المقالة في ذروة التحولات الإقليمية الكبرى في المنطقة، وتحوّلات العلاقات بين دولها. وأخيرا، أنهت تركيا تدشين خطتها المركزية في هذه المرحلة، وهي التي أضحت رسمياً تعزيز علاقتها القديمة مع تل أبيب، والتطبيع مع الحكومات العربية التي حاربت الربيع العربي، وتكثيف جسور المصالح معها، وهذه الخطوات، وإن جاءت في سياق الصفيح الساخن المبكّر للانتخابات التركية، في يونيو/ حزيران 2023، وملف التخلص من اللاجئين بأي ثمن، إلا أنها في الحقيقة تعيد سياق الدولة في تركيا إلى مفاهيم المصالح البراغماتية، بعيداً عن المبادئ أو طموح التيارات العربية الموالية لتركيا الحديثة.
وليست مهمة المقالة تقديم تحليل سياسي مستحقّ لهذا الانقلاب في السياسات، والذي رصدناه قديماً وتوقعنا مآله، خصوصا بعد اتفاق سوتشي لتصفية الثورة السورية، ثم ظهر اليوم في صورة الاستعداد الشامل، للتنسيق بين نظامي دمشق وأنقرة في مستقبل اللاجئين، ولكنه محاولة لإعادة تفكيك سؤال الإشكال التاريخي في علاقات الأتراك بالعرب، لوضعه في مسار تصوّر ثقافي قابل للنقاش، يتجاوز تقلبات السياسة التركية ومواسم الأنظمة العربية، لصناعة أرضية تفاهم عميقة للمستقبل، تقوم على تصالح أو تفهم اجتماعي بين الشعوب التي تجمعها الرسالة الإسلامية، بمجهر واقعي، لا أحلام تنهار تحت المصالح الشرسة.
لقد أثّرت فكرة الأزمة التاريخية بين العرب والأتراك العثمانيين، ثم الصراع مع القوميين العرب الذين ردّوا على القوميين الأتراك في ذروة ثورتهم، التي انطلقت جذوتها منذ قرون، ولم تكن مطلقاً وليدة الصراعات الأخيرة، لكن هذه القومية أضحت جذراً رئيسياً للدولة الحديثة، ولم يكن الأمر وليداً لتحالف حزب العدالة والتنمية (الحاكم) مع الحركة القومية، في دورات الانتخابات الأخيرة، فالقضية عميقة جداً في الهيكل السياسي للدولة وفي وجدان الشعب.

حركة الإصلاح الفكري كانت متقدّمة على محاولات العرب، وخصوصا العثمانيين منهم، الأخيرة التي قادها الأمير شكيب أرسلان ورفاقه العرب

كانت حصيلة جولتي البحثية في تركيا 2014 مهمة للغاية، في فهم التاريخ العثماني، في الأربعة قرون الأخيرة، وبروز ظاهرة الإصلاحيين الدستوريين، ذوي التوجّه الإسلامي، والذين اختلفوا مع عدد من سلاطين آل عثمان، وتعرّضوا لما تعرّضوا له من عقوبات، وهو تاريخٌ، في جانبه التركي، مجهول لكثيرين من العرب، والروايات العاطفية التي تملأ “السوشيال ميديا” والمسلسلات التلفزيونية بعيدةً عن التحقيق التاريخي، وهو خلاف الأتراك أنفسهم وصراعهم لأجل صناعة تركيا أفضل. وهو باب واسع فاجأني به أحد الأساتذة الأكاديميين الأتراك المتخصصين، في زيارة له في مكتبه الجامعي بإسطنبول، بأن أخذني إلى مكتبة أرشيفية خاصة، بعد سؤالي له: كيف لنا أن نصل إلى مصادر توثّق المشاريع التي تقدم بها الإصلاحيون الدستوريون قديماً؟ فأشار إلى خزانة ضخمة، تحوي عشرات من المجلدات، أُودعت فيها تلك المراسلات والمكاتبات والمشاريع، أي أن حركة الإصلاح الفكري كانت متقدّمة على محاولات العرب، وخصوصا العثمانيين منهم، الأخيرة التي قادها الأمير شكيب أرسلان ورفاقه العرب. وأرسلان أحد المحسوبين بقوة على السلطان عبد الحميد، ومشروع الجامعة الإسلامية الكبرى، وهو البديل عن مشروع القومية العربية في حينه، والذي اختلف الإصلاحيون العثمانيون العرب بعد ذلك مع الأستانة فيه، حين قرّرت أن تستخدم المشروع من دون أي إجراءات إصلاحية للمركز العثماني وللأقاليم العربية، والتي كانت تعاني من مستوى تخلف ضخم في التعليم، لا يشك فيه أي باحث أو مطلع مبتدئ (شهادة الأمير شكيب نفسه).
كانت المفاجأة الثانية التي تصدر من المؤسسات الأكاديمية، ومن أساتذة إسلاميي التوجه، أن هذه المكاتبات والمراسلات كانت تصدر من فكرة إسلامية ومن غيرةٍ على تركيا، من أولئك الوزراء أو المثقفين أو من بعض من تولى موقع الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، وأن الفكرة التي تقول إن أولئك الإصلاحيين “خونة وعملاء” لرغبتهم في التحديث، هي تجنٍّ كبير وشهادة مزوّرة، وهي قصص تروّج عند العرب، ولا مكان لها يُذكر في الوجدان التركي، ولا تؤيدها مؤسساتهم الأكاديمية.

ظل الإصلاحيون يسعون إلى صناعة دولة عثمانية إسلامية، قوة منعتها تؤخذ بالعلم والتقدّم، وفتح آفاق المعرفة لمنافسة أوروبا ومراغمتها سياسياً

نعم كانت هناك اختراقات واسعة لأوروبا في تاريخ الرجل المريض (مرحلة ضعف الدولة العثمانية)، وتدخلات كبيرة، وبعضها يُنتزع من ديوان بعض السلاطين أنفسهم، كما كانت هناك لحظات قوة ومنعة، وسياسات بعضها موفق واستراتيجي وبعضه عاطفي كلف كثيراً، ومنه ما يُجمع عليه الأتراك، وهو خطيئة دخول الحرب العالمية وتأييد “مشيخة الإسلام في إسطنبول”، فرمان السلطان بالجهاد، ومناصرة ألمانيا النازية ضد الحلفاء، والتي ذهب ضحيتها مئات آلاف من المسلمين الأتراك والعرب وغيرهم.
ولذلك ظل أولئك الإصلاحيون، بحسب شهادة الأساتذة الأتراك، يسعون إلى صناعة دولة عثمانية إسلامية، قوة منعتها تؤخذ بالعلم والتقدّم، وفتح آفاق المعرفة لمنافسة أوروبا ومراغمتها سياسياً، وكانت مقاصدية الإسلام ودوره في الحياة الحقوقية والتقدم النهضوي، حاضرة لدى الإسلاميين منهم، غير أن مساحة دعواتهم لم تكن تصل إلى الأقاليم العربية، ولذلك دخل التعليم الجامعي والمطابع وغير ذلك جغرافية تركيا الحديثة، قبل العرب وأقاليم القوميات الأخرى في الشرق بمدة طويلة.
ناقشت مع الأصدقاء في تركيا ذلك الحين، وكانت هناك مساحة أفضل بكثير من زمن اليوم، أن العودة إلى التاريخ، لدينا نحن العرب ولديكم أنتم الأتراك، يجب أن توضع تحت البحث العلمي الذي نستفيد منه لكلتا أمتينا العربية والتركية. وأن مفهوم الأمة الإسلامية الجامعة يجب أن نحرّره تحت قيم الرسالة المحمدية الأصلية، لا صراعات التاريخ ولا النزعات القومية، وعلينا، عرب اليوم (وهكذا قلتُ مبكراً)، أن نفهم تأثير النزعة القومية التركية، وخشية الشعب من ضياع الدولة التي تأسّست في عهد الرئيس أتاتورك، وهو مفهوم يكاد أن يكون مقدّساً في غالبية الشعب التركي، من دون أن نقبل أي تجنٍّ أو سلوك عنصري على العرب وغيرهم. .. وأن ننشغل نحن أيضاً بإصلاح أوضاع وطننا العربي وأقطاره، وأن نلتفّ جميعاً حول قوله تعالى: “تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ”.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى