رأي

فرنسا تستعدّ «لتزخيم» مُبادرتها الإنقاذيّة

كتب ابراهيم ناصر الدين في “الديار”:

لم يدخل لبنان بعد في دائرة اهتمام القوى الاقليمية والدولية بانتظار النهاية السعيدة للحوار الايراني-السعودي، وبت مصير الاتفاق النووي الايراني، وفي الانتظار الزخم الوحيد المرتقب سيكون فرنسيا لكن بعد الانتخابات النيابية المقبلة، وعشية الاستحقاق الرئاسي. ولان عقد مؤتمر وطني جديد على «انقاض» «الدوحة» «والطائف» غير متاح في المدى المنظور لان ظروفه معقدة وتحتاج الى اكثر من حوار وطني على شاكلة ما حصل قبل سنوات في «سان كلو» الفرنسية، فان باريس عقب إعادة انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لولاية رئاسية ثانية ستعود مجددا الى الساحة اللبنانية من «بوابة» المبادرة الإنقاذية السابقة لكن مع تعديلات ستلحظ المتغيرات السياسية المستجدة بعد ال 15 ايار، لكن هذا الحراك دونه عقبات يجعل فرص نجاح الحراك الفرنسي محفوفا بمخاطر الفشل مجددا.  

 ووفقا للمعلومات، ابلغت السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو عددا من المسؤولين اللبنانيين ان بلادها اطلقت «موجة» جديدة من الاتصالات الخارجية «الاستباقية» لتامين «هبوط آمن» للاوضاع الداخلية ما بعد الاستحقاق الانتخابي في محاولة لايجاد مناخات ملائمة لتشكيل حكومة جديدة تكون قادرة على قيادة «مرحلة التعافي المالي والاقتصادي»، وتؤمن المناخات السليمة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في موعدها الدستوري.  

وفي هذا السياق، تشير اوساط سياسية بارزة الى ان الادارة الفرنسية التي تراجع زخم نشاطها الدبلوماسي عقب اندلاع الحرب الاوكرانية، وعشية الانتخابات الرئاسية، ستعود الى رفع مستوى تحركها وستنطلق من «ارضية» صلبة عنوانها تفاهم سابق مع كل من طهران والرياض لمنح لبنان اولوية في حوارهما «الثنائي» بعدما سبق وحذرت من تداعيات الانهيار الاقتصادي الذي سيؤدي حكما الى افلات امني وفوضى غير محدودة النتائج.

وقد حصلت باريس على كلام واضح من الجانبين بعدم الرغبة في حصول فوضى على الساحة اللبنانية، ونجحت على نحو مبدئي باعادة الاهتمام السعودي من «البوابة» «الانسانية» وهو ما ترجم بالصندوق المشترك الفرنسي- السعودي الذي «ابصر النور» يوم امس الاول، دون ان يعني ذلك تبلور استراتيجية سعودية واضحة باتجاه كيفية العودة الى الساحة اللبنانية، لكن الفرنسيين يعتقدون ان ما حققوه حتى الان «افضل الممكن» سعوديا بانتظار ان تتبلور الحلول حول القضايا الاخرى الشائكة في المنطقة. اما ايرانيا فكان الجواب واضحا لجهة وجود «عنوان» واحد في  بيروت، حزب الله، وعبره يمكن التفاهم على كل القضايا دون المرور بـ «طهران»، وهكذا كان من خلال تفعيل السفارة الفرنسية في بيروت تواصلها مع «حارة حريك».  

اما تطوير «افضل الممكن» الى ما هو ابعد من ذلك، فهو يحتاج براي تلك المصادر الى اكثر من عامل خارجي وداخلي كي ينتج حلولا مستدامة تعيد انتاج وثيقة وطنية جديدة لبناء الدولة بصيغة قابلة للتطور بعدما اثبتت التجربة ان «الطائف» كاتفاق، او عدم تطبيقه، «كربج» الدولة وانتج مشاكل، لا حلولا للازمات. فباريس لا تملك قدرة رعاية وادارة البحث عن صيغة جديدة للنظام ، لانها لا تملك وزنا دوليا او اقليميا يسمح لها بفرض الحلول والتسويات وحيدة، فاذا لم يمنح الاميركيون «مظلة» واضحة وجلية للدورالفرنسي، لن تتمكن باريس من احراز اي تقدم، وقد مارست واشنطن ضغوطا سابقة ادت الى»فرملة» الجهود الفرنسية بعد انفجار المرفأ.

في المقابل، يبقى التفاهم الايراني- السعودي شرطا اساسيا لنجاح التحرك الفرنسي. ولان باريس لا تريد ان يبقى الوضع اللبناني معلقا ريثما تنضج التسويات الاقليمية والدولية ستتحرك بزخم بعد عودة ماكرون الى الاليزيه، لكن بسقف ادنى لا يلامس الحلول البنوية، وانما يسعى الى الوصول لتسويات آنية تعيد عجلة الاقتصاد الوطني باجواء سياسية هادئة، ولا مشكلة اذا تم التفاهم عليها مع اللبنانيين «بالمفرق» او «بالجملة» من خلال عقد مؤتمر جامع!  

وفي هذا السياق، تبقى المشكلة ان باريس لا تملك الكثير من الأوراق الضاغطة التي ترغب باستخدامها لتعويم المبادرة الفرنسية، فالازمات المقبلة ليست سهلة اولها شكل حكومة ما بعد الانتخابات وهوية رئيسها، ووفقا لتلك الاوساط، لا تبدي الادارة الفرنسية الكثير من الارتياح لتجربة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي اخفق حتى الان بالوفاء باي وعد باقرار»البنود الإصلاحية»، لكن المشكلة في غياب البديل، فثمة «فراغ» حتمي بعد الانتخابات في موقع «السني» القوي لان كل الكتل النيابية السنية ستكون «مشرذمة» ودون «مظلة» جامعة، كذلك تخشى باريس من ربط الاطراف اللبنانية المتنازعة على «كل شيء»، تشكيل حكومة جديدة بانتخاب رئيس جمهورية جديد في 31 تشرين الاول المقبل، اذا حصلت اصلا في موعدها، وهذا سيعني فراغا مكلفا في كل السلطات التنفيذية ما يجعل تعهدات ماكرون بتنفيذ الخطة الانقاذية محط شك كبير.  

وفي هذا السياق، سينطلق التحرك الفرنسي من «قاعدة» صلبة مفادها ان سياسة «تدوير الزوايا» التي انتهجها الرئيس ميقاتي اثبتت عقمها، ولا يمكن ان تكون جزءا من استراتيجية اي حكومة جديدة، وهي تشجع على تشكيل حكومة تشبه «مجالس ادارة «الشركات الخاصة لتنفيذ مهمة الانقاذ بعيدا عن اي توازنات سياسية ستنتجها الانتخابات المقبلة، لان العودة الى «لعبة» الاكثرية والاقلية مضيعة للوقت والجهد وتكريس للمحاصصة التي لن تنتج حلولا بل ازمات.

ولان الضمانات غير موجودة لدى احد، يتحرك ميقاتي على اكثر من مستوى لحجز مكانه على راس الحكومة الجديدة، ويسعى للحصول على «المباركة» السعودية او الحد الادنى من القبول السعودي لفرض عودته في ظل وجود خيارات اخرى لا يمانعها الفرنسيون غير المعجبين باداء حكومته الحالية بعدما اكتشفوا انه نسج تفاهمات من تحت «الطاولة» سمحت لكل الاطراف السياسية المشاركة بالحصول على «فيتو» التعطيل، وهذا لن يناسب المرحلة المقبلة.  

«طريق» هذه المرحلة لن تكون «معبدة» امام الفرنسيين فهم سيتعاملون مع وقائع جديدة ليس اقلها غياب الرئيس سعد الحريري وتياره عن الساحة السياسية، وتشتت القيادة السنية، وكذلك الضعف المرتقب في موقف رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه بعد الانتخابات، وهو على بعد اشهر قليلة من مغادرة قصر بعبدا، والصراع سيكون محتدما على هوية الممثل الاقوى لدى المسيحيين. وفيما لن تستطيع المعارضة تشكيل اكثرية تكسر التوازنات، في ظل الترجيحات بتراجع القدرة التمثيلية لوليد جنبلاط،لا تعويل ايضا على قدرة «المجتمع المدني» باحداث اختراقات جدية تسمح بفرض وقائع جديدة، ولهذا يدرك الفرنسيون ان القوة الوحيدة الثابتة تبقى لدى حزب الله القادر بعد الانتخابات على الامساك بـ «خيوط اللعبة» كونه الرافعة الوحيدة القوية بين ضعفاء، وليس واضحا في ظل هذا «الخلط» للتوازنات، كيف يمكن انتاج تسويات قابلة «للحياة»؟   

يتم قراءة الآن

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى