رأي

النظم السياسية العربية… محاولة تحديث

كتب مصطفى الفقي في “اندبندنت عربية”:

تظهر كل يوم مؤشرات جديدة تجعل التحديث ضرورة بكل جوانب الحياة ومظاهر التطور، ولعل أكثرها أهمية هي تلك المتصلة بالحياة السياسية ونظم الحكم، خصوصاً أن العالم اليوم يتجه بخطوات سريعة نحو تطورات غير مسبوقة، بما يستوجب أن تكون حركة النظم السياسية بالإيقاع نفسه.

والملاحظ خلال العقود الأخيرة أن تطورات إيجابية قد طرأت على بعض نظم الحكم في عدد من الدول العربية، نذكر منها مصر والسعودية وبعض دول الشمال الأفريقي العربي، تحديداً تونس والجزائر والمغرب، كما أن دول الخليج العربي قد خطت إلى الأمام في اتجاهات التحديث، خصوصاً في ما يتصل بالقرار الاقتصادي الرشيد والانفتاح على العالم المعاصر من دون موانع سياسية أو حواجز نفسية، وهذه كلها مظاهر لحياة أفضل يجب أن يستلهم منها كل من يؤرخ للنظم العربية الحالية قدراً كبيراً من التصور للمستقبل على ضوء مسيرة الحاضر وإصلاح أخطاء الماضي.

ولا أجازف هنا لكي أكون أكثر تحديداً على الرغم من أن هذه المقالة تجعلني كمن يمشي على الأشواك في حذر ويقظة شديدين، ولعلي أطرح هنا عدداً من العوامل المتصلة بمؤشرات التقدم وضوابط القياس للمسافة نحو عالم أفضل للنظم العربية والسياسات القومية في عصرنا الراهن، وأوجزها فيما يلي:

أولاً، لا يجادل باحث في العلوم السياسية أو خبير في نظم الحكم في أن مساحة الديمقراطية واتساع هامش حرية الرأي تمثل بالضرورة الركيزة الأساس في تقدم الأمم وازهار الشعوب، ولقد لاحظنا خلال العقود الأخيرة أن النظم الفردية هي بيئة حاضنة للديكتاتوريات، ومناخ أمثل للطغيان، وضعف المشاركة السياسية وغياب الرأي الآخر، وأصبح جلياً أن الحاكم الفرد يمكن أن يودي باستقرار بلاده وسلامة شعبه ويدفع الأمور نحو الهاوية.

ولعل المغامرات السياسية والعسكرية التي زجت بها قيادات انفردت بالقرار خرجت عن النص كانت كلها نتاجاً لديكتاتورية الفرد وفاشية الفكر وغياب الرؤية، وأحداث الربيع العربي ليست بعيدة منا في هذا السياق.

ثانياً، إن درجة الاستقرار السياسي المرتبطة بالعامل الأول الذي يؤدي إلى الترشيد وإقرار عناصر الحوكمة هو الكفيل في النهاية بإحداث الاستقرار المطلوب والابتعاد من التغيرات المفاجئة، وهنا يجب أن نوضح صراحة أن هناك فارقاً بين حال السكون ومفهوم الاستقرار، فالسكون ظاهرة سلبية تشير إلى تجمد النظم وافتقاد حيوية القرار، وقد تكون النيران تحت الرماد ولا يشعر بها الحاكم، بينما يقوم الاستقرار على مجموعة من العوامل المدروسة بعناية في مناخ صحي كامل يسمح بقبول الرأي الآخر ويتعامل مع الغير في ندية ومساواة تجعل من مبدأ المواطنة الشعار السائد الذي يحترمه الجميع ويلتف حوله أبناء الوطن الواحد، فالعنصرية قاتلة تدمر المشاعر وتقطع الروابط بل وتؤدي إلى تشويه المجتمعات.

وقد لاحظنا خلال السنوات الأخيرة نبرة عالية من النكوص عن الديمقراطية في الدولة المدنية والاتجاه نحو بعض مظاهر الاستبداد السياسي حتى في الدول التي كانت متقدمة بحساب العصر، مما أدى إلى اهتزاز الصورة بشكل متسارع، وبرزت بعض المظاهر العنصرية تطل بشكلها الكئيب، ويكفي أن نتذكر معاملة الغرب الأوروبي للاجئين من أوكرانيا والتفرقة بينهم على أسس عنصرية بغضاء كنا نظن أننا قد تجاوزناها وقطعنا أشواطاً واسعة في الإيمان بالفرد الحر داخل الدولة المدنية الحديثة.

اقرأ المزيد

الوباء والحرب

العروبة والإسلام… أسباب التلازم وعوامل الفراق

العرب والرابطة الثقافية
ثالثاً، سوف يظل الاقتصاد المتغير المستقل الذي تتبعه متغيرات أخرى، ذلك أن القرار السياسي يضع تحت مظلته البعد النفعي لما يقوم به الأفراد والجماعات، ولا جدوى في هذه الحال من مشاريع التقدم وبرامج الإصلاح، إذ إن حشداً ضخماً من مشكلات الإنسان المعاصر إنما يأتي من نقص الموارد المتاحة في مواجهة الحاجات المتعددة، وينبغي أن لا يغيب عن وعينا أبداً أن الفقر قنبلة موقوتة، وأن المجتمعات المزدحمة بالبشر مع نقص الإمكانات تصبح بيئة حاضنة للجريمة والانفلات الأخلاقي والخروج عن القانون، والتمرد غالباً على ولي الأمر حتى وإن لم يكن نموذجاً هابطاً في إدارة البلاد وتحقيق العدالة الاجتماعية.

لذلك فإننا نركز هنا على أن الدول الفقيرة تحتشد لديها المشكلات وتتكاثر أسباب الخلاف ومظاهر التردي مع شيوع الفساد وانهيار منظومة القيم، وهكذا فإن ترشيد النظم السياسية يقتضي بداية وفرة في الموارد تسمح بالحديث عن مستقبل أفضل في ظل منظومة جادة للإصلاح الحقيقي.

رابعاً، إن تداول السلطة ودوران النخبة وتغيير المسؤولين سعياً نحو الأفضل هو نتيجة مباشرة للحراك الاجتماعي، وتعبير عن حيوية النظم في ظل شعور عام بأن “السلطة المطلقة مفسدة أي مفسدة”، لذلك فإن تجديد الدماء وضخ الحيوية في شرايين النظم إنما تعتمد على المقومات الأساس في الإصلاح، وفي مقدمها الاهتمام بالتعليم كأولوية أولى للنهوض والتقدم والخلاص من الكم الكبير من المشكلات القائمة، فالمجتمعات المتطورة تسعى إلى تغيير شكل الحياة وتجديد أطر النظم من خلال جودة التعليم وتأثيرها الضخم في نمو المجتمعات وازدهار عناصر الانفتاح أمامها بشكل متواصل وفي كل الظروف، فالتقدم عملية ديناميكية مثل العوم ضد التيار، فإما أن يتقدم السباح وإما أن تجرفه الأمواج إلى الوراء متراجعاً حيث كان، والتعليم العصري لم يعد عملية سهلة ولكنه سبيكة معقدة من المعارف والبرامج التي تنتشل الأجيال الجديدة وتخرج بها من الأطر التقليدية والمظاهر القديمة إلى ما يمكن اعتباره شكلاً جديدًا للتحضر والحداثة ومواكبة العصر ومصافحة المستقبل.

خامساً، إن العلاقة بين السياسة والدين لا تزال ملتبسة في المنطقة العربية والإسلامية، ويتعين علينا أن نقطع الحلقة الشريرة الناجمة عن التفاف السياسة الملوثة حول الدين النقي، وتلك مسؤولية كبرى على عاتق المؤسسات الدينية والتجمعات الإصلاحية في كل مكان، وقد أصبح الأمر واضحاً، وهو أن بعض رجال الدين يحاولون تأويل النصوص وتفسير الأحاديث على نحو مغلوط لا يتفق مع مقاصد الشريعة السمحاء وجوهر العقيدة النقية، ولقد أصبح على ولي الأمر، والحال كذلك، أن يدفع إلى تجديد الخطاب الديني وسلامة الدليل النقلي واحترام المنطوق العقلي، وقد حاول النظامان السعودي والمصري خلال السنوات الأخيرة تحقيق ذلك ضماناً للرشد ورغبة في الإصلاح وسعياً إلى التجديد، ولا تقف المؤسسات الدينية وحدها عند القيام بدورها في هذا السياق، بل لا بد من إعلام نزيه يتسم بشرف الكلمة ونبل المقصد ويدفع الرأي العام دفعاً نحو المنصات الملائمة لمساعدة أصحاب العقائد في فهم التوجهات الإيجابية لها، والابتعاد من الصياغات المبهمة والأفكار المزيفة التي تحاول إخضاع الدين الحنيف لأغراض سياسية لا تخدم الفرد ولا تحقق رفعة المجتمع.

سادساً، إن القرار الرشيد للحاكم العادل إنما يتحقق من إتمام الصالح العام لجمهرة الناس، ولذلك فإن الإصلاح عملية عقلية تبدأ من القمة إلى القاع ولا تستثني أحداً، وأنا شخصياً على يقين أن المستقبل العربي سيحمل في طياته تطورات إيجابية بمنطق الأعداد الكبيرة من أهل العلم وأصحاب المعرفة في عالمنا العربي كله.

سابعاً، إن الانفتاح على العالم المعاصر وتبادل الخبرات والسعي إلى الارتقاء بأهل الخبرة في كل المجالات كلها مظاهر حية للانتقال من حال الركود إلى التقدم، ومن الجمود إلى السعي نحو ما يحقق صالح الأغلب الأعم من البشر.

إننا إذا كنا نتحدث عن النظم السياسية العربية ومحاولة تحديث الحكم فإننا نتجه مباشرة إلى جوهر القضية، وهو ضرورة رفع شأن الإنسان العربي ثقافياً وفكرياً، والاعتناء بحاجاته الصحية والتعليمية، والخلاص من مشكلاته الاقتصادية والنفسية، لقد آن الأوان لكي يصحو العرب قبل فوات الأوان.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى