رأي

الممرّ الأوسط يهزّ خريطة العالم

الحقيقة الأعمق أنّ ما يحدث اليوم يتجاوز التجارة والبنى التحتية؛ إنه صراع على النفوذ والسيادة، سباق على من يملك مفاتيح المستقبل…

كتبت إيمان درنيقة الكمالي, في النهار:

 في خضمّ أكثر المواجهات الجيوسياسية تعقيداً في القرن الحادي والعشرين، تحالف تركي–صيني من “الطراز الثقيل”  يلوح في الأفق. 

فبعد أن هزّ مشروع “الحزام والطريق” الصيني العالم بضخامته وطموحاته، وضعت تركيا ثقلها على الطاولة عبر طرح “الممر الأوسط” ورقة استراتيجية في لعبة الممرات الكبرى. غير أنّ اللحظة المفصلية جاءت من قلب قمة شنغهاي، حين أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن مبادرة جريئة لربط “الممر الأوسط” التركي بالمشروع الصيني العملاق، في خطوة تتجاوز  الجغرافيا إلى رسم خريطة التجارة العالمية، وتقويض هيمنة القوى التقليدية.

هذا المشروع ليس مجرد صفقة تجارية فحسب، بل خطوة تاريخية ستضع العالم كله أمام منعطف حاسم،  بحيث لا تكون التجارة منفصِلة عن الجيوبوليتيك، بل أداة في قلب معركة يُعاد فيها رسم خرائط النفوذ، وتُصاغ فيها معادلاتٌ جديدة قد تُغيّر شكل النظام العالمي الراهن. ما يدفعنا الى طرح السؤال الآتي: 

ما طبيعة التحالف التركي–الصيني الجديد عبر “الممر الأوسط”، وما هي رهاناته الجيوسياسية، خصوصاً في ظل احتدام الصراع مع القوى التقليدية على طرق التجارة والنفوذ العالمي؟ 

الممرّ الأوسط: حلم تركي يمتد قروناً

ليس “الممر الأوسط” إلا تجسيداً لحلم تركي قديم يعود إلى بدايات الألفية الثالثة، حين بدأت أنقرة برسم رؤيتها لمشروع استراتيجي يعيد إليها دورها المحوري في قلب أوراسيا.

وفي عام 2009، طرحت تركيا خطتها لإنشاء شبكة ضخمة من الموانئ وخطوط السكك الحديد تربطها بآسيا الوسطى، والقوقاز، وأوروبا.

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان (أ ف ب)

لم يكن الهدف اقتصادياً فحسب، بل كان امتداداً لرؤية قومية أعمق: إعادة وصل “العائلة التركية الكبرى” التي فرّقتها الجغرافيا، من كازاخستان وأوزبكستان إلى تركمانستان وقرغيزستان وأذربيجان.

أذربيجان: شريان الممر الأوسط

وفي قلب هذا الطموح، تتصدر أذربيجان المشهد بوابة الحلم التركي ومفتاحه الجيوسياسي. فهي ليست مجرد محطة على خريطة “الممر الأوسط”، بل تمثّل نقطة ارتكاز استراتيجية حوّلت المشروع التركي من تصور نظري إلى واقع جيوسياسي فاعل.

لقد أدركت أنقرة مبكراً أنّ أيّ مشروع لربط العالم التركي لن يكتب له النجاح من دون أذربيجان، التي تشاركها اللغة والهوية، وتشكل معها بالفعل “أمة واحدة في دولتين”.

وانطلاقاً من هذا الفهم، عززت تركيا علاقاتها مع باكو سياسياً وعسكرياً، خصوصاً بعد أن أثبت التحالف بينهما فاعليته خلال حرب ناغورنو كاراباخ الثانية في عام 2020. وقد توسّع التعاون ليشمل تدريب القوات، وتبادل الخبرات، وتوقيع معاهدات أمنية واقتصادية؛ مما ساعد أذربيجان على تطوير قدراتها الدفاعية وتوطين صناعات استراتيجية.

بهذه الخلفية، أصبحت أذربيجان نقطة الانطلاق الحيوية للممر الأوسط، وواجهة تركيا نحو بحر قزوين وآسيا الوسطى، حيث تبني أنقرة اليوم جسور تعاون مع أوزبكستان وتركمانستان لضمان استمرارية الممر وتحصينه في وجه التحديات الجيوسياسية.

الحرب الأوكرانية: نقطة تحوّل

رغم أن تركيا أرست خلال العقد الماضي أسساً قوية لمشروع “الممر الأوسط” عبر إنجازات مثل نفق “مرمراي” (2013)، وخط السكك الحديد عبر كازاخستان (2014)، وخط “باكو–تبليسي–قارص” (2017)، ظلّ المشروع لمدة طويلة محدود التأثير وخارج حسابات القوى الكبرى.

لكنَّ الحرب الروسيّة- الأوكرانية (2022) عطّلت الممرات الشمالية التقليدية بسبب العقوبات الغربية على موسكو، فتوجهت الأنظار إلى “الممر الأوسط” كبديل استراتيجي أكثر أماناً لنقل البضائع من الصين إلى أوروبا، متجاوزاً مناطق التوتر. وبحسب “المجلس الأطلسي”، انفجر حجم الشحنات عبر الممر، متجاوزاً 3.2 ملايين طن في عام 2022، مع زيادة كبيرة في عامي 2023 و2024.

وبهذا، فقد نقلت الحرب الأوكرانية “الممر الأوسط” من هامش الجغرافيا الاقتصادية إلى قلب “المعركة العالمية للممرات”، حيث نزح مركز الثقل اللوجستي عن الطرق الشمالية الخاضعة للهيمنة الروسية نحو مسارات جديدة عند القلب الجيوسياسي لتركيا، متجاوزاً الأبعاد الاقتصادية إلى لعبة النفوذ العالمي.

الصعود الصيني الجديد في الممر الأوسط

مع تبدّل موازين الطرق التجارية بفعل الحرب الأوكرانية، أدركت الصين أن الممر الأوسط يمثّل فرصة استراتيجية نادرة، وأنّ السيطرة عليه باتت مفتاح القوة في القرن الحادي والعشرين، خصوصاً بعد أن كشفت الحرب عن نقاط ضعف خطيرة في مشروع “الحزام والطريق”: فالممر الشمالي عبر روسيا أصبح محفوفاً بالمخاطر، والجنوبي عبر قناة السويس بات بطيئاً ومكلفاً بفعل الضغوط الأميركية المتزايدة.

ولا تقتصر جاذبية هذا الممر بالنسبة للصين، على كونه أسرع أو أقصر زمنياً، بل تنبع من ثلاثة أهداف جيوسياسية رئيسية: أولاً، تجاوز العقوبات الغربية وتفادي الطرق البحرية الخاضعة للهيمنة الأميركية. ثانياً، تعزيز السيطرة الاقتصادية على آسيا الوسطى التي تعتبرها الصين “الحديقة الخلفيَة” لمشروعها، إضافة إلى توجيه الاستثمارات الضخمة نحو تركيا وأذربيجان وكازاخستان لضمان نفوذ طويل الأمد في مناطق حيوية. 

بذلك، يُعدّ هذا التوجه الصيني تحولاً استراتيجياً مدروساً  لبناء شبكة “بديلة” بالكامل، أكثر أماناً وفعالية، تمنح بكين نفوذاً أكبر في مناطق كانت روسيا تعتبرها تقليدياً مناطق نفوذ خاصة بها.

حرب الممرات الكبرى

في هذا السياق، أطلقت الولايات المتحدة في قمة   G20 في نيو دلهي عام 2023 مشروعاً ضخماً  تحت اسم 

India-Middle East-Europe Economic Corridor ، أو  “I.M.E.C”  وهو ممرّ يربط الهند بأوروبا عبر الخليج وإسرائيل، و يكون بديلاً استراتيجياً من مشروع الحزام والطريق الصيني. 

أما روسيا، التي كانت تسيطر على الممر الشمالي، فقد وجدت نفسها في مأزق بعد أن أدت العقوبات الغربية إلى تراجع حاد في حركة الشحن عبره بنسبة 40% في عام 2023 وحده، لتعتبر اليوم صعود الممر الأوسط تهديداً مباشراً لمكانتها.  

وفي هذا المشهد المتوتر، يبحث الاتحاد الأوروبي عن طريقه الخاص، إذ يجد نفسه في مأزق استراتيجي؛ فمن جهة، يحتاج إلى تأمين طرق إمداد بعيدة عن روسيا، ومن جهة أخرى، يخشى الاعتماد الكامل على الصين.

ورغم إطلاق مبادرة “غلوبال جيت واي” بقيمة 300 مليار يورو لمنافسة الصين، إلا أن أوروبا تدرك أن الممر الأوسط هو الأقصر والأسرع، وبدأت بالفعل بتمويل مشاريع لدعمه.

دول المشرق العربي

  بالنسبة إلى مصر، فهي تعتبر الممر الأوسط تهديداً مباشراً لقناة السويس، حيث تشير التوقعات إلى احتمال انخفاض إيرادات القناة بنسبة 17% بحلول 2030، إذا تحوّل جزء كبير من حركة الشحن إلى المسار التركي.

ولم تعد سوريا  على هامش المعادلة، بل بدأت ملامح دورها المحوري تتبلور بوضوح، خصوصاً بعد توقيع اتفاق النقل البري بين أنقرة ودمشق في حزيران/ يونيو 2025، الأمر الذي جعل الأراضي السورية مرشحة بقوة لتكون الجسر الحيوي الذي يربط الممر الأوسط بدول الخليج، مروراً بالعراق والأردن. كما أن استقرار سوريا سياسياً وأمنياً واقتصادياً سيحوّلها إلى نقطة ارتكاز إقليمية تربط بين تركيا والخليج. 

أما العراق، فهو بموقعه الجغرافي الاستثنائي وثرواته النفطية، يمتلك قدرة استراتيجية على لعب دور أكثر تأثيراً في حال استثمر بجدية في تطوير البنية التحتية التي تربطه بالشبكة اللوجستية للممر الأوسط، ما يجعله أحد المفاتيح الرئيسية في إعادة تشكيل خارطة النقل والتجارة في المنطقة.

وعلى رغم أن مسار “الممر الأوسط” لا يمر مباشرة عبر الأراضي الأردنية، إلا أن موقع الأردن الجغرافي يمنحه أهمية استراتيجية في أي مشروع لربط بري بين الخليج وتركيا. فمع تصاعد الحديث عن خطوط سكك حديد مستقبلية بين السعودية، الأردن، وسوريا، تزداد فرص عمّان لتكون محطة رئيسية نحو أوروبا. ووفقاً لتقرير معهد “FPRI”،  قد يجني الأردن استثمارات ضخمة في الموانئ والبنية التحتية إذا قرر الانخراط فعلياً في منظومة الممر، ليغدو حلقة وصل بين آسيا والخليج وأوروبا.

في النهاية،ما نراه اليوم ليس مجرد منافسة اقتصادية؛ بل حرب ممرات مكتملة الأركان. الولايات المتحدة تدفع بمبادرة “I.M.E.C” للدفاع عن نفوذها، وروسيا تقاتل من أجل إنقاذ الممر الشمالي، بينما تبحث أوروبا عن مخرج في قلب العاصفة.

وفي وسط هذا التحول العميق، يقف العالم العربي في موقع محوري. الخليج أمام فرصة تاريخية ليصبح حلقة وصل حيوية بين آسيا وأوروبا، لكنه يواجه اختباراً صعباً بين أميركا والصين. مصر، من جهتها، تخشى على مكانة قناة السويس، لكنها تعلم أن تجاهل “الممر الأوسط” قد يُضعف دورها الاستراتيجي. أما سوريا والعراق والأردن، فقد تجد أنفسها فجأة في قلب شبكة لوجستية عملاقة تعيد تشكيل أدوارها الإقليمية.

لكنّ الحقيقة الأعمق أنّ ما يحدث اليوم يتجاوز التجارة والبنى التحتية؛ إنه صراع على النفوذ والسيادة، سباق على من يملك مفاتيح المستقبل؛ فمن يملك الطرق، يملك القرار. 

وإذا نجح الدمج الكامل بين “الممر الأوسط” و”مبادرة الحزام والطريق”، فإن العالم قد يدخل مرحلة جديدة تماماً، تقف فيها أنقرة وبكين في قلب المشهد، فيما تتراجع قوى لطالما تصدّرت النظام الدولي.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى