رأي

الفكر السياسي الفلسطيني بين التحوّل والثبات

كتب الباحث في الفكر السياسي وليد القططي في “ميادين نت”:

حافظت حركة الجهاد الإسلامي على ثبات فكرها السياسي كحركة وطنية مرجعيّتها الفكرية إسلامية أو كحركة إسلامية قضيتها المركزية وطنية، وكانت استمرارية نهج المقاومة ضد الكيان الصهيوني أهم دلائل هذا الثبات في الفكر والعمل.

تطوّر الفكر السياسي الفلسطيني في النصف الأول من القرن العشرين مُبلوِراً الهوية الوطنية والمشروع الوطني من خلال الصراع مع الاحتلال البريطاني كتحدٍ يُهدد طموح الاستقلال الوطني، والصراع مع المشروع الصهيوني كتحدٍ ينفي حقيقة الوجود الوطني، وتشكّلت الهوية الوطنية الفلسطينية في إطار عمقها العربي الإسلامي، وتمحور المشروع الوطني الفلسطيني في أهداف: إلغاء وعد بلفور، ووقف الهجرة اليهودية لفلسطين، ومنع بيع الأرض لليهود، وتحقيق الاستقلال الوطني. 

وبين النكبتين وبعدهما حدث تحوّل في الفكر السياسي الفلسطيني أنتج تيارين مُختلفين فكراً وعملاً هما الوطني والإسلامي، ينازعهما نهجان مُختلفان في النظرية والتطبيق ما بين طرفي المقاومة والمساومة؛ مقاومة تشتبك مع الكيان والاحتلال، ومساومة تتعايش مع الكيان والاحتلال. 

التيار الوطني الفلسطيني امتدادٌ للتيار العلماني في الوطن العربي، وقد سار في اتجاهين: وطني ليبرالي بقيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، ذات المرجعية العلمانية كإطارٍ للثورة، وقومي اشتراكي بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ذات المرجعية الماركسية كنظرية للثورة. وقد نشأ هذا التيار بين النكبتين حاملاً هدف التحرير ونهج المقاومة. 

وبعد النكبة الثانية في حزيران/يونيو عام 1967، دخل التيار الوطني بكل فصائله منظمة التحرير الفلسطينية – ذراع النظام الرسمي العربي آنذاك – فسيطر عليها التيار الوطني عملياً، وأُصيب بأمراض النظام الرسمي العربي فكرياً، فتسللت فيروسات الواقعية الثورية إلى الفكر السياسي الوطني لتنتج نظريات سياسية ثورية ظاهرها الواقعية وباطنها “الانبطاحية”، ولكنَّ مقاومة الاحتلال والاشتباك معه ظلَّت حاضرة إلى حين. 

التيار الإسلامي الفلسطيني امتدادٌ لتيار الإسلام الحركي في الوطن العربي، وخصوصاً جماعة الإخوان المسلمين، التي كان لها الدور الأبرز في بلورة الفكر السياسي للتيار الإسلامي الفلسطيني ما بين النكبتين وبعدهما. وقد استمد هذا التيار فكره السياسي من المرجعية الفقهية والحركية التي يتبعها بمعزلٍ عن المرجعية الفكرية للحركة الوطنية بقيادة منظمة التحرير، وذهب في ذلك إلى حد التناقض لدرجة الفصام الكامل مُعادياً أُطروحاتها الثورية ببعديها الوطني والقومي. 

لقد كانت فلسطين مجرّد أرض وقف إسلامي يجب الجهاد لتحريرها، ولكنَّ الجهاد لتحريرها كان مؤجّلاً بتأصيل شرعي يستند إلى فقه الانتظار حتى تنتهي مرحلة التربية والإعداد، أو يتم تجاوز حقبة الاستضعاف المكية، أو تُقام دولة الخلافة الإسلامية، أو يتحقّق وعد الآخرة الإلهي… وبذلك، كانت المقاومة ضد الكيان الصهيوني مؤجّلة، وكان الاشتباك مع الاحتلال مؤخّراً. 

أثناء هذا الانقسام في الفكر السياسي الفلسطيني ما بين تيار وطني يستحضر مقاومة الكيان ويشتبك مع الاحتلال غير معتمدٍ الإسلام كإطار مرجعي للثورة، وتيار إسلامي يُغيّب مقاومة الكيان ويتعايش مع الاحتلال، موظِّفاً الإسلام كإطار مرجعي لتأجيل الثورة، نشأت  حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين مطلع ثمانينيات القرن العشرين لتُنهي هذا الانقسام بكلمة السر الثلاثية التي جمعت بين الإسلام وفلسطين والجهاد، لتتبنّى فكراً سياسياً إسلامياً يتجاوز عجز الانتظار وشلل العمل إلى فاعلية الثورة وحيوية الحركة، وتتبنّى فكراً سياسياً وطنياً  يتجاوز فصام الاغتراب واضطراب التهجين إلى انسجام الأصالة وقوة الجذور. ولذلك، كانت المقاومة ضد الكيان، وكان الاشتباك مع الاحتلال حاضراً في فكرها وعملها منذ نشأتها وحتى مقاومة واشتباك آخر شهيد في كتيبة جنين. 

بعد نشأة “الجهاد الإسلامي” في مطلع ثمانينيات القرن العشرين بهويته الوطنية الإسلامية وبفكره الجهادي الثوري، أشعلت نار المقاومة والاشتباك ضد الاحتلال، ما خلق بيئة شعبية ثورية مهّدت لتفجير انتفاضة الحجارة عام 1987. ومع بداية الانتفاضة وحتى نهايتها، كان التحوّل كبيراً في الفكر السياسي الفلسطيني لدى التيارين الوطني والإسلامي فيما يتعلّق بنهجي المقاومة والمساومة. 

التيار الوطني اتخذ الانتفاضة الأولى فرصةً للاستثمار السريع في الثورة، فأكمل عمليات “التجميل” التي شوّهت فكره السياسي منذ العملية القيصرية التي أنتجت البرنامج المرحلي عام 1974، ثم قادته تدريجياً إلى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، كنتيجة لتحوّل في الفكر السياسي نحو قبول فكرة تقاسم فلسطين ثم تقاسم السلطة، وتبنّي فكرة مرحلية التحرير ثم مرحلية التسوية، وتحديد هدف إقامة الدولة الفلسطينية قبل تحرير الأرض الفلسطينية… فكانت نتيجة ذلك التخلّي عن نهج المقاومة ضد الكيان، وصولاً إلى مساومته على الأرض والحقوق، ومغادرة حالة الاشتباك مع الاحتلال وصولاً إلى التعايش معه. 

التيار الإسلامي اتخذ الانتفاضة الأولى مدخلاً للتقدّم السريع في فكر الثورة، فتخلّص من فقه الانتظار لينتج فكراً سياسياً ثورياً وعملاً وطنياً مقاوماً، مستنداً إلى فقه الجهاد وفلسفة الشهادة في الإسلام. ومع مرور الزمن بعد انتهاء انتفاضة الحجارة، وإقامة السلطة الفلسطينية، وبدء انتفاضة الأقصى… وصولاً إلى العقد الثاني من القرن الـ 21، كان التحوّل الثاني في الفكر السياسي للتيار الإسلامي قد اكتملت ملامحه، ولا سيما في الاقتراب من المشروع الوطني المُعدّل: مشروع إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بدلاً من تحرير الأرض، والاقتراب من البرنامج المرحلي المُعدّل: برنامج مرحلية التسوية بدلاً من مرحلية التحرير… وكانت نتيجة ذلك الوقوع في كمين السعي للمشاركة في نظام سياسي فلسطيني يتعايش مع الاحتلال أو يؤجّل مقاومته والاشتباك معه. 

وسط هذه التحوّلات في الفكر السياسي الفلسطيني التي حدثت عند التيارين الوطني والإسلامي، حافظت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين على ثبات فكرها السياسي كحركة وطنية مرجعيّتها الفكرية إسلامية أو كحركة إسلامية قضيتها المركزية وطنية.

وكان أهم دلائل هذا الثبات في الفكر والعمل هو استمرارية نهج المقاومة ضد الكيان الصهيوني وديمومة حالة الاشتباك مع الاحتلال في كل محطات النضال منذ نشأتها ودورها المركزي في تفجير انتفاضة الحجارة الأولى، وحتى دورها الطليعي في إشعال نار المقاومة المُسلّحة في الضفة الغربية… الدور الذي يؤكد ثبات “الجهاد الإسلامي” على فكرة المقاومة والاشتباك، باستراتيجية المشاغلة وصولاً مع الشعب والأمة إلى هدف التحرير الكامل لفلسطين.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى