أبرزرأي

الفرنكوفونية… مشكلة لغة أم أزمة دولة؟

كتب محمد طيفوري في صحيفة “العربي الجديد”: استضافت تونس، أخيرا، الدورة الـ18 لقمة الفرنكوفونية في جزيرة جربة، بمشاركة 90 وفداً و30 من كبار القادة وسبع منظمات دولية، بعد أكثر من تأجيل؛ جرّاء جائحة فيروس كورونا عام 2020، ثم في خريف 2021 بسبب الإجراءات غير الديمقراطية للرئيس التونسي قيس سعيّد. تصادفت هذه القمة مع الذكرى الـ50 على تأسيس المنظمة، التي كانت بمبادرة من الرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سيدار سنغور، الذي أقنع زعماء تونس والنيجر وكمبوديا، أواخر عقد الستينيات، بجدوى الفكرة ثقافيا بالنسبة لدولهم الوليدة حينها.

استطاعت الحركة الفرنكوفونية، خلال العقود الخمسة الماضية، تجاوز الثقافة نحو أولويات سياسية واقتصادية، كما بدا واضحاً من جدول أعمال قمة جربة الذي ركز على التعاون الاقتصادي بين الأعضاء في المنظمة، من دون تجاهل الملفات السياسية الساخنة على الساحة الدولية (الحرب الروسية الأوكرانية مثلا)، فتجمع الفرنكوفونيين يبحث لنفسه؛ كما جاء على لسان أمينته العامة، عن “تأثير في عالم ممزّق”، سميا أنه ينعقد بالتزامن مع قمّة المناخ في مصر، واجتماع مجموعة العشرين في إندونيسيا.

يبقى هذا الطموح عصيا عن التحقق، في ظل تباين الإرادات التي تحرّك الأعضاء في المنظمة، فانعقاد القمة كان أكثر من متنفس بالنسبة لقيس سعيّد، فقد قصد فيها إثبات حضوره الإقليمي والدولي، مثل ما حدث مع الرئيسين، عبد المجيد تبّون في القمّة العربية بالجزائر، وعبد الفتاح السيسي في قمّة المناخ بمصر. وهي مساع دفعت الرجل إلى التخلي عن قاعدة الوفاء للغة العربية، في التجمّعات الدبلوماسية، لصالح لسان موليير الذي خاطب به الحاضرين، في خطوة حظيت بإشادةٍ وتنويهٍ من الشركاء الفرنسيين المساهمين في تنظيم القمة.

تدريجياً، ينجح الرئيس التونسي في الخروج من عزلته الدولية، فبعد قمّة التعاون الافريقي الياباني (تيكاد)، أواخر شهر أغسطس/ آب الماضي، يفلح في رعاية وتنظيم قمة أخرى، شهدت مشاركة وازنة، تمثلت في حضور الرئيس الفرنسي؛ إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الكندي؛ جاستن ترودو، والرئيس السنغالي ماكي سال، وتشارلز ميشيل؛ رئيس المجلس الأوروبي، ما يعتبر نصرا دبلوماسيا للرئيس، بعد مضي حوالي سنة ونصف السنة على انقلاب 25 يوليو (2021) الذي احتكر بعده كل السلطات في البلد. ناهيك عن تمكّنه من اقتناص اتفاقية تمويل من فرنسا بقيمة 200 مليون يورو، ستخصّص لدعم الميزانية في تونس، ما يساهم في تخفيف وطأة الخناق، ولو بشكل مؤقت، على الاقتصاد التونسي.

وحاول إيمانويل ماكرون تسخير قمّة جربة لتحقيق مكاسب رمزية، يدغدغ بها مشاعر الفرنسيين، وينعش آمالهم في وجود فرص لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الضائعة، فعِوض المكاشفة والجهر بأسباب تراجع النفوذ الفرنسي في مستعمراتها السابقة بأفريقيا، اختار الزعيم الفرنسي تحويل تراجع استعمال اللغة الفرنسية إلى مشجب، تعلق عليه خسائر فرنسا، فقد شهد استخدام هذه اللغة انخفاضا، خلال العقود الماضية، بالنسبة لشعوب المنطقة المغاربية، واعتبر الرئيس أن “التحدّي الحقيقي أمام الفرنكوفونية هو تعزيز استخدام الفرنسية، خصوصا في قارّة أفريقيا”، فالفرنسية هي اللغة العالمية للقارّة الأفريقية.

تحدّث ماكرون عن استهداف هذه اللغة في أفريقيا، فتراجع لغة موليير قرين “حملة ممنهجة لشيطنة باريس”، وذهب إلى حد اتهام روسيا بتغذية دعاية مناهضة لفرنسا في أفريقيا، مؤكّداً أن مؤثرين “يتحدّثون في برامجكم (يخاطب قناة تي ڤي 5 الفرنسية) يتلقون أجورهم من الروس”. لا يدرك الرجل أنه بهذا الكلام يسيء إلى فرنسا من حيث لا يدري، فلا يعقل أن يهزم أفراد (مؤثرون) إمبراطورية استعمارية بسطت نفوذها على 35% من أراضي أفريقيا. ويبقى تنامي النفوذ الروسي دفعاً، قد يفيد في تفسير ما تواجهه فرنسا في دول جنوب الصحراء، لا في بلدان شمال القارّة الذي قصدها بحديثه عن الانحسار اللغوي.

لا يُتوقع أن تأتي المساعي المتزايدة لإنعاش الفرنكوفونية، منذ حديث الأكاديمي والمنظّر الاستراتيجي الفرنسي باسكال بونيفاس، قبل حوالي عقد، عن أن “موضوع الفرنسية لم يعد خياراً ثقافياً أو اقتصادياً، وإنما أضحى رهاناً استراتيجياً يكتسي أهمية حيوية لدى فرنسا”، التي ارتقت في السنوات الأخيرة إلى مستوى تكليف رئاسي للروائية المغربية ليلى سليماني بمهمة “إعادة إرساء الفرنكوفونية”، بأي نتيجةٍ لمصلحة الفرنكوفونية. وذلك عائدٌ لأكثر من سبب؛ بدءا بأصول النشأة، فظهور الفكرة الفرنكوفونية؛ التي عارضها الجنرال ديغول في أول الأمر، كان في مواجهة الأنكلوفونية، وكلاهما من ثمار الظاهرة الاستعمارية.

يظهر من تحرّكات لندن بعيداً عن رابطة الكومونولث أنها على وعي تام بتراجع سطوة مثل هذه الكيانات وسيطرتها في عالم اليوم. حقيقة تصرّ باريس على تجاهلها، بالسعي إلى إلباس مجد إمبريالي تليد لبوس تكتل اقتصادي؛ طرحت فكرة الفرنكوفونية الاقتصادية عام 2014 في قمّة دكار، يضمن لفرنسا السيادة والهيمنة، بدعوى الشرعية الاستعمارية والتاريخية، رغم محدودية قدرتها ونفوذها. وعلى فرض نجاحها في بث نفسٍ اقتصادي في هذا الكيان، فالأكيد أن أداءه لن يرقى إلى مستوى تكتلات اقتصادية وازنة من طينة: مجموعة بريكس ورابطة آسيان… فالفكرة، مهما تطوّرت، تظل أسيرة تجمع دول مستعمَرات قديمة.

بعيداً عن الطموح الاقتصادي، يظهر أن الدافع الثقافي الذي كان وراء تجمّع الدول الفرنكوفونية بدأ يفقد بريقه في دولٍ كانت معقلاً للفرنكوفونية، كما حدث، أخيراً، في الجزائر التي تراجعت عن اعتماد الفرنسية لغة ثانية في البلاد. وقبل سنوات في رواندا، التي قرّرت، منذ عام 2010، الاستغناء عن الفرنسية، واتخاذ الإنكليزية لغة رسمية للتعليم. في سياق متصل، قرأ كثيرون في إسناد رئاسة المنظمة الفرنكوفونية إلى الدبلوماسية الرواندية، لويز موشيكبوابا، محاولة لاسترضاء قيادة البلد للتراجع عن القرار.

حال الفرنكوفونية لن يتغيّر ولن يتحسّن، وإن تعدّدت القمم وتكرّرت اللقاءات، فباريس المسؤول الأكبر عما آلت إليه لغة موليير في حديقتها الخلفية، بفعل سياسته القائمة، ثنائية الاستغلال والابتزاز؛ فعلى الدوام كانت في صف الحكّام المستبدّين ضد إرادة الشعوب وحريتها؛ وخير مثال ما يجري حالياً في تونس، حيث تلافى ماكرون أي حديثٍ عن الوضع الديمقراطي في البلد، ما ولّد مشاعر السخط والحقد ضد فرنسا والفرنسية والفرنسيين في معظم البلدان الأفريقية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى