أبرزرأي

الفرنكوفونية ثقافة أم هيمنة ونفوذ؟

كتب المهدي مبروك في “العربي الجديد”: نعقد بعد أيام في تونس القمّة الفرنكوفونية، وسط جدل حادّ بين النخب الثقافية والسياسية، خصوصاً بعد تأجيلها المتكرر والملابسات التي حفّت بها، وخصوصاً بعد تحفّظات أبدتها دول أعضاء بشأن تشريف تونس بعقد القمة فيها، وهي التي تسجل انتهاكات متعدّدة لحقوق الإنسان ما زالت تتفاقم منذ الانقلاب في صيف العام الماضي (2021).
وعادة ما تكون مثل هذه القمم مثيرة لمختلف أنواع الانتقادات، وما زلنا نتذكّر الجدل الحاد الذي خاضته النخب الفرنسية، حين قرّر الرئيس الفرنسي، هولاند، أن يكون ضيفاً بمناسبة عقد القمة الرابعة عشرة للفرنكوفونية في كينشاسا، في أكتوبر/ تشرين الأول 2012، وكان الرئيس الكونغولي كابيلا الابن يقود حرباً ضروساً آنذاك ضد من سمّاهم “المنشقّين”، وقد ارتُكب ما يشبه المجازر آنذاك من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.
تُثبت هذه الوقائع أن القمة الفرنكوفونية ليست مؤتمراً لغوياً، بل هي في قلب السياسة، من دون إغفال أن السياسات اللغوية ذاتها ليست بعيدةً عن إرادات الهيمنة والنفوذ التي تبديها الدول، وتحرص على تكريسها لغوياً وثقافياً. غير أن للفرنكوفونية تحديداً خصوصياتٍ لا نجد لها مثيلاً في بقية التجمعات اللغوية الأخرى (الإنكليزية والإسبانية والبرتغالية)، لعدة أسباب، منها ما يعود إلى طبيعة البلد الذي طبع اللغة، فرنسا، بما هي إرث استعماري، أو طبيعة النخب الفرنكوفونية التي لم تحكم فقط، بل هيمنت ومارست أيضاً باسم التفوّق اللغوي، هذا استعلاء وتمايز أفظع أحياناً من استعلاء (وهيمنة) المحتلين ذاتهم.

مارست هذه النخب، في عدة بلدان أفريقية، باسم ما تعتقد أنه تفوّق لغوي سياسات تطهير لغوي أبادت به ثقافاتها اللغوية المحلية، وأقصت من حقلها التداولي رموزاً وقيماً، فضلاً عن استبعاد نخب أخرى عدّت خصماً من مراكز القرار وصنع الرأي العام لاحقاً. لقد استحوذت هذه النخب على المدرسة والإعلام وإدارة الدولة لتمارس هذه الهيمنة. يذكر الزميل الجزائري، ناصر جابي، في دراساته عن النخب الجزائرية والدولة، أن الفرنسية لم تكن مجرّد لغة للتدريس والتعلم، بل كانت أيضاً آلية فرز نخبوي حاسم، جرى بمقتضاه تسليم مفاتيح القيادة لمراكز معينة، ظلت لدى نخب فرنكوفونية، فيما سُلِّمت مفاتيح أخرى أقلّ وزناً وتأثيراً لنخب عروبية اللغة: الآخرة للعروبيين والحياة للفرنكفونيين. شجّت الفرنكوفونية المجتمع إلى فئتين تعادي واحدُتهما الأخرى، وقسّمت الدولة إلى قطاعات. حدث هذا في جلّ الدول المغاربية والأفريقية، وإن بأشكال مختلفة، تأخذ بالاعتبار التاريخ ما قبل الاستعماري للجماعة الوطنية وطبيعة الحقبة الاستعمارية ذاتها، فضلاً عن تماسك المجتمع الإثني واللغوي. لذلك، لاذت بعض الإثنيات بتعبيرات لغوية فرنكوفونية، اعتقاداً منها أن ذلك سيشكل لها حصانة سياسية لغوية. بهذا المعنى، تلعب اللغة الفرنسية، خارج قيمتها اللغوية الصرفة، أو حتى الثقافية، حبل مشيمة يجدّد دوماً شد النخب إلى بطن الحضانة الفرنكوفونية الأم. 

تتشكّل داخل الجسم الوطني الواحد أقلية لغوية تمارس أشكال الاضطهاد اللغوي الذي لم يمارسه المعمرون سابقاً، كذلك فإنها تتحصّن بمظلومية لغوية، ما إن يُقترَب من مصالحهم أو تُهدَّد وسط تعاطف دولي لغوي سياسي غير مسبوق. لذلك، نفهم الغضب الفرنسي، كلما حاولت النخب الحاكمة، لهذا السبب أو ذاك، مراجعة النظام اللغوي المعتمد: لغة التدريس، لغة الإدارة، لغة الإشهار (الإعلان)، الشارع عموماً. حين لوّحت الجزائر بأنها ستمضي في اعتماد اللغة الإنكليزية، قرعت طبول الهلع والفزع في فرنسا، وهي لم تستسغ بعد كيف أن الجزائر ليست عضواً بعد في المنظمة الفرنكوفونية.
ومع ذلك، ستظلّ الدعوات إلى الخروج من هذه المنظمة أو تعويض الفرنسية بالإنكليزية مجرّد رد فعل حماسي، في ظل عدم تحديد سياساتنا اللغوية وأهدافنا نحن بوصفنا جماعة وطنية. هذه الدعوات متشنّجة، ولا تقدّم خططاً وطنية تمنح الناس القدرة على تبيّن ملامح خرّيج المدرسة التونسية أو غيرها خلال العقود المقبلة. واللغة الفرنسية تتقهقر لغةَ علم. ويشهد تراجع عدد المقالات العلمية المنشورة بالفرنسية، سواء في العلوم أو الإنسانيات، على موضوعية هذا التشخيص. ولكن معرفة حاذقة باللغة الفرنسية تظل نافذة يطل عديدون منها على جماليات أدب وفلسفة لا يمكن محوها بمجرّد توترنا السياسي تجاه فرنسا. شغف الشباب المتنامي بتعلم اللغة الإنكليزية واتساع دائرة المتكلمين بها داخل المحافل العلمية وفي أوساط واسعة من نشاط المجتمع المدني وخبراء المنظمات الدولية من التونسيين ذاتهم يؤكّد، مرّة أخرى، أن هؤلاء يدركون أن هذه اللغة ضرورية، وهي ليست للتعبير فحسب عن آرائهم وأفكارهم، بل أيضاً للبحث عن فرص تشغيل في سوقٍ تعولمت لغته، وغدت ناطقة بالإنكليزية تحديداً. ولكن علينا أيضاً أن ننتبه إلى أن جلّ هؤلاء يتقنون اللغة الفرنسية كذلك. نحن ذاهبون من ثنائية اللغة إلى أجيال متعدّدة اللغات. لذا، السؤال الواجب طرحه: كيف يمكن أن نوفر الإطار الأمثل لهؤلاء، حتى يكونوا متعدّدي اللسان.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى