العلاقات المغربية – الفرنسية: وضوح الرؤية وثبات الموقف
كتب البراق شادي عبد السلام في صحيفة العرب.
العلاقات المغربية – الفرنسية بلغت من النضج ما يؤهل البلدين لوضع إستراتيجيات تحترم رؤية كل بلد لقضاياه وملفاته الداخلية بفضل تراكم تاريخي يحضر بقوة كفاعل أساسي في اختيارات المغرب لشراكاته.
“على ضفتي البحر الأبيض المتوسط تتطلع فرنسا والمغرب بكل مشاعرهما إلى أن يسود العالم السلام والعدل والتقدم، ويعملان دون هوادة لتثبيت هذه القيم في عالمنا الذي يعاني من ويلات الحروب والأزمات الاقتصادية”، بهذه الكلمات خاطب الملك الحسن الثاني أعضاء الجمعية الوطنية في خطاب ألقاه داخل قصر البوربون، مقر البرلمان الفرنسي، في السابع من مايو 1996 بدعوة من صديق المغرب الكبير الرئيس الراحل جاك شيراك.
وعلى هذا الأساس، فالعلاقات المغربية – الفرنسية ظلت لعقود نموذجًا إقليميّا ناجحًا لمتانة الروابط بين الشمال والجنوب، وظل محور الرباط – باريس صمام أمان للاستقرار والسلام والأمن في وقت كانت فيه أفكار هواري بومدين تعيث فسادًا في المنطقة بدعم الحركات الانفصالية وتخطيط الانقلابات تحت مسميات دعم الثورات وإعادة تدوير شعارات حق الشعوب في تقرير مصيرها خدمة لمصالح توسعية وتحقيق الهيمنة الإقليمية.
العلاقات الثنائية بين البلدين، المبنية على قواعد تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية صلبة، تتجاوز منطق العلاقات النمطية العابرة إلى شراكة إستراتيجية شاملة تمثل نموذجًا متقدمًا للتعاون الثنائي من خلال إرساء ضوابط متينة تقوم على الندية وحماية المصالح المتبادلة بين البلدين؛ حيث حرصت المملكة المغربية على تعزيزها مع القوى العالمية المؤثرة في العالم، ومن بينها فرنسا، لعدة اعتبارات يتداخل فيها ما هو تاريخي بما هو سياسي واقتصادي وثقافي، ما يجعلها علاقات متعددة الأبعاد والمداخل، ويقوي بشكل كبير فرص النجاح والاستدامة ويعزز إمكانيات التعاون المتبادل ما يساهم في تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.
زيارة إيمانويل ماكرون، رئيس الجمهورية الفرنسية، إلى المملكة المغربية ستشكل منعطفًا مهمًا لتطور المسار التاريخي للعلاقات المغربية – الفرنسية بعد الفتور الكبير الذي عرفته العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في الآونة الأخيرة نتيجة خلافات في وجهات النظر والأولويات التي تحدد طبيعة المواقف الفرنسية بشكل خاص من مجموعة من الملفات ذات الأهمية القصوى بالنسبة إلى المملكة المغربية كملف الوحدة الترابية للمملكة وإشكالية الهجرة وقضايا حقوق الإنسان. لكن الملاحظ أن العلاقات الاقتصادية لم تتأثر بشكل كبير بهذه التقلبات، حيث حافظت فرنسا على مكانتها المتميزة في الفضاء الاستثماري المغربي. فقد شهدت المبادلات التجارية بين المغرب وفرنسا نموّا قويّا خلال سنة 2023، إذ بلغ حجمها 14.1 مليار يورو ليتجاوز حجم التبادل التجاري الحالي ضعف ما كان عليه في عام 2015. كما أن الفرنسيين يمثلون أكبر جالية أجنبية في المملكة المغربية، بأكثر من 53 ألف مواطن فرنسي مسجّلين في سجل الفرنسيين المقيمين في الخارج (المرتبة الثامنة عالميّا)، ويحمل 51 في المئة منهم الجنسيتين الفرنسية والمغربية. ويتصدّر السياح الفرنسيون عادةً قائمة السياح الأجانب في المغرب، ففي عام 2023 بلغ عدد السياح الفرنسيين 4.8 مليون سائح. كما أن الجالية المغربية في فرنسا تتجاوز المليون ونصف المليون، وهي في المرتبة الثانية من أصل حوالي 8 ملايين مهاجر تستقبلهم فرنسا.
وسيشكل التقارب المغربي – الفرنسي انفراجًا مهمّا لحالة انسداد الأفق الإقليمي الذي تعيشه شعوب المنطقة في ظل التحديات الجيوسياسية المتعددة بين ضفتي البحر المتوسط، وبشكل خاص الوضع في أوكرانيا والحرب الفظيعة في قطاع غزة بانعكاساتها على الأمن الإقليمي والدولي وتصاعد الفواعل المؤثرة على الأمن البشري في الساحل والصحراء الكبرى.
الرسائل التي بعثت بها الدبلوماسية المغربية إلى مختلف المحاور الدولية، أعادت تحديد المعايير للعقيدة الدبلوماسية للمملكة المغربية التي تنهل من التراث الدبلوماسي المغربي والمبادئ والقوانين الدولية التزامًا بمواثيق الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني، وبالتالي فالرباط تتمسك بقدسية احترام سيادتها الوطنية واعتبار الوحدة الترابية للمملكة خطًا أحمر يحدد طبيعة علاقتها مع الشركاء التقليديين أو الجدد والإصرار على عدم التدخل في شؤونها الداخلية تحت أي مبرر أو الوصاية على اختياراتها السيادية وانخراطها الجدي والمسؤول في تنزيل رؤيتها الواضحة لطبيعة علاقاتها المستقبلية مع العالم، وفق الدوائر التي تشكل مجال اهتمامها سواء الدائرة الإقليمية بتحدياتها المرتبطة بتدبير إشكاليات الأمن والاستقرار، أو تنامي الخطر الإرهابي والجماعات الانفصالية المسلحة في الساحل الأفريقي وتداعياتها على ملفات تشتغل عليها الدبلوماسية المغربية بهدوء على مستوى الدائرة المتوسطية والأوروبية أو الأطلسية، كتدبير ملف الهجرة وحقوق الإنسان والتنسيق في مجال مكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار الإقليمي وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية ودعم ومأسسة الفرص الاستثمارية الواعدة التي يوفرها المغرب لباقي شركائه الأوروبيين والأطلسيين، وفق التزام مغربي ورغبة أكيدة في تطوير علاقاته الثنائية مع باقي دول العالم.
وعلى هذا الأساس تأتي زيارة إيمانويل ماكرون إلى المملكة بعد اعتراف فرنسي واضح بسيادة المملكة على الأقاليم الجنوبية ودعم فرنسي لا لبس فيه لمقترح الحكم الذاتي كإطار لحل النزاع الإقليمي المفتعل تحت السيادة المغربية ورغبة مشتركة بين البلدين في صياغة مفهوم جديد للشراكة المتميزة.
واعتمد المغرب في سياساته الخارجية على خيارات دبلوماسية صارمة ومسؤولة وواضحة تجاه كل القضايا التي تمس الأمن القومي للمملكة. فقد سبق للعاهل المغربي الملك محمد السادس أن حدد بوضوح الخطوط الحمراء المغربية في ما يخص سيادة المغرب على صحرائه بقوله إن “ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”.
ويتصرف المغرب اليوم كقوة إقليمية لديه مصالح قومية عليا لا يمكن المس بها. السلوك الجديد للمملكة دبلوماسيّا هو دليل على فهم دقيق للمتغيرات الدولية على خلفية توالي الاعترافات الأوروبية بعد الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية وتداعيات الحرب في أوكرانيا وانعكاسات الموقف الجيوسياسي في الشرق الأوسط على الأمن والسلم العالميّيْن.
العلاقات المغربية – الفرنسية بفضل التراكم التاريخي والبعد الثقافي بلغت من النضج ما يؤهل البلدين لوضع إستراتيجيات واضحة المعالم تحترم رؤية كل بلد لقضاياه وملفاته الداخلية. المملكة المغربية كدولة دبلوماسية فاعلة إقليميّا ودوليّا في العديد من الملفات الأمنية والسياسية والبيئية بفضل الرؤية الملكية المتبصرة التي تحرص المؤسسات الدبلوماسية المغربية والمصالح الخارجية على تنزيلها بشكل دقيق، هي اليوم حريصة على حماية قرارها السيادي بعيدًا عن التخندق في أجندات دولية لا تلائم مصالحها العليا.
وتعتدّ المملكة المغربية بدورها القيادي المتنامي بشكل متواصل في أفريقيا، والتي توجه إليها 70 في المئة من استثمارات المغرب في الخارج، وبشكل خاص في منطقة غرب أفريقيا والساحل التي يوليها المغرب اهتمامًا خاصًا ولديه مشاريع كبرى رائدة ستغير وجه المنطقة كمشروع أنبوب الغاز الأطلسي – الأفريقي، والمبادرة الملكية لتعزيز ولوج بلدان الساحل إلى المحيط الأطلسي، من خلال التعاون جنوب – جنوب الذي يقوم على أساس شراكة رابح – رابح، ومبادرة مسلسل الرباط للدول الأفريقية الأطلسية الطموحة والرائدة.
خروج الشريك الفرنسي من المنطقة الرمادية إلى الاعتراف الصريح سيؤثر بشكل كبير على الديناميكيات الجيوسياسية الإقليمية وسيعطي دفعة كبيرة لربط المشاريع التنموية المغربية بباقي الجهود الإقليمية لتنمية القارة الأفريقية وحماية مصالح شعوبها.
وهناك ملفات عديدة ستتم مناقشتها أثناء الزيارة الهامة لرئيس الجمهورية الفرنسية؛ حيث من المنتظر أن يناقش الجانبان في إطار الحوار الإستراتيجي ضرورة الاستمرار في الجهود الثنائية لتوطيد العلاقات البينية في عدة مجالات، كالتجارة والاستثمار والطاقة المتجددة والبنية التحتية والطيران والأمن الغذائي والتكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والتمويل الأخضر والمستدام والتعاون الأمني ودعم جهود المملكة لبناء منظومة صناعية دفاعية متقدمة وقوية.
الأكيد أن هذه الزيارة تأتي في إطار التشاور المستمر بين الرباط وباريس حول القضايا الثنائية والإقليمية بما يمتن جسور الصداقة الدائمة والمصالح المشتركة، في وقت تشهد فيه المنطقة مستجدات متلاحقة تحتاج إلى البصيرة النافذة والثبات في الموقف ووضوح الرؤية الذي تتمتع به قيادتا البلدين.