الترسيم: الخريطة الرابعة تلامس الخطّ 26
كتبت اساس ميديا:
هل يمكن أن ترسو المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان في البحر على خط حدوديّ بحريّ هو “أكثر من الخط 23 وأقلّ من الخط 29″، كما ردّد بعض مصادر المفاوضات، إثر محادثات الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين في بيروت مطلع الأسبوع؟
تقضي المقاربة الجديدة برسم خط جديد للحدود يلامس الخط 26 بمساحة معيّنة، في شكل يضمن ضمّ كامل حقل قانا إليها. وقد يكون الخيار الثاني أن يكون الخط متعرّجاً بحيث ينطلق مستقيماً فيشمل كامل مساحة حقل قانا، على أن يعود متعرّجاً وينضمّ إلى النقطة 23 في عمق البحر، ويتمّ التسليم بحقل كاريش كاملاً لإسرائيل.
مع التكتّم عن تفاصيل ما اقترحه الجانب اللبناني على الوسيط الأميركي في الأيام الماضية، فإنّ ما تسرّب من أفكار جديدة تضمّنتها الخريطة التي أطلع الرئيس ميشال عون هوكشتاين عليها (من دون أن يسلّمه إيّاها) هو الذي دفع الأخير إلى القول عن اجتماعاته مع الرؤساء الثلاثة وسائر المسؤولين الذين التقاهم، إنّ “الخبر السارّ هو أنّني وجدت إجماعاً أكبر حول الرسالة، وإعداداً جدّيّاً للزيارة، وقدّموا بعض الأفكار التي تشكّل أسس مواصلة المفاوضات والتقدّم فيها”. ولم يفُت هوكشتاين أن يستدرك في حديثه لقناة “الحرّة” بالقول: “من غير أن تغفل عن بالنا فكرة أنّ علينا أن نقدّم تنازلات… والملفّ الأمتن الذي يُفترض بالجانب اللبناني إعداده هو ما قد ينجح”، تاركاً المجال للأخذ والردّ بعد أن يحصل على الجواب الإسرائيلي على الاقتراح اللبناني الجديد.
تشمل الحسابات الجيوسياسية أيضاً سعي الولايات المتحدة الأميركية ضمناً إلى إبعاد روسيا عن الشراكة في سوق الغاز والنفط الذي يمكن أن ينشأ في لبنان
الخريطة الرابعة؟
لكنّ الواقعة التي تقفز إلى الأذهان هي أنّ لبنان اقترح خريطة جديدة يمكن ترقيمها على أنّها الرابعة، منذ بدأ تكوين ملفّ حقوقه في الغاز، لخطّ الحدود مع إسرائيل، بعد سلسلة الخرائط التي ظهرت على مدى عقد ونيّف من الزمن. وما اقتضى توسيع المساحة التي يطالب بها لبنان، وفق قول أحد المفاوضين لـ”أساس ميديا”، أنّ لبنان لا يعرف بدقّة مساحة حقل قانا وأين ينتهي، نظراً إلى أنّه لم يُجرِ مسحاً ثلاثي الأبعاد لمنطقته، لأنّ المسح الأخير حصل استناداً إلى خط فريديريك هوف الوسيط الأميركي بين عامَيْ 2010 و2012، ولم يقُم بالمسح جنوب هذا الخط.
ولأنّ الرئيس عون لم يسلّم هوكشتاين “الخريطة الرابعة”، فإنّها تبقى غير رسمية ما دامت قابلة للتعديل، لأنّ ما طرحه لبنان خاضع للتفاوض، وبالتالي للتعديل، وما دام الوسيط الأميركي يشير إلى الحاجة إلى تقديم “تنازلات”. هذا مع أنّه حين استمع إلى اقتراح عون اكتفى بالاستفسار عن بعض النقاط من دون أن يبدي رأيه سلباً أو إيجاباً، باعتبار أنّ مهمّته تقضي بأن ينقل ما سمعه إلى إسرائيل.
الخريطة الأولى في حكومة السنيورة: الخط 23
الخريطة الوحيدة الرسمية هي الأولى التي جرى رسمها في عهد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى، وجرى الاتفاق على الحدود مع قبرص على أساسها في عام 2007، وأبلغ لبنان لاحقاً الأمم المتحدة بها في عام 2011، أيام حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بعد التدقيق فيها مجدّداً.
رسمت مسوّدة الاتفاقية مع قبرص خريطة وضعتها لجنة من 10 مختصّين يمثّلون 6 وزارات وهيئات معنيّة هي: وزارة الدفاع وقيادة الجيش، وزارات الخارجية، الطاقة والمياه، الأشغال العامّة والنقل، المجلس الوطني للبحوث العلمية، ورئاسة الحكومة. وجرى توقيع مسوّدة الاتفاقية مع قبرص التي تشمل خط الحدود مع كلّ من سوريا شمالاً وإسرائيل جنوباً عند نقطة الإحداثية الرقم 23، مع النصّ على أنّ أيّ ترسيم تقوم به الدولة القبرصية لحدودها مع دولة ثالثة يفرض التشاور مع لبنان قبل الاتفاق مع الدولة الثالثة.
شمل الخط الذي وضعه الجانب اللبناني مساحة الـ860 كلم مربّعاً التي اعترضت إسرائيل عليها لاحقاً، وقامت بتوقيع اتفاقية ثنائية مع قبرص (عام 2010)، “نكلت” فيها الأخيرة، كما يقول السنيورة، بالاتفاقية مع لبنان وتراجعت عن الخط الذي وضعه لبنان لحدوده البحرية مع إسرائيل في الخريطة التي كان لبنان اتفق مع القبارصة عليها.
لكنّ خصوم السنيورة حمّلوه مسؤولية ما اتّفقت عليه قبرص مع إسرائيل، فيما الخريطة التي استندت إليها حكومته في ترسيم الحدود مع قبرص تخالف ذلك، لأنّها تشمل مساحة الـ860 كيلومتراً مربعاً التي أصرّ لبنان مجدّداً على أنّها من حصّته خلافاً للخريطة الإسرائيلية.
كان لـ”حزب الله” ولحركة “أمل” وزراء في عداد حكومته في حينها. وجرى تكليف لجنة جديدة من الوزارات والهيئات المختصّة للتدقيق في الخريطة، على الرغم من أنّ الاتفاق القبرصي الإسرائيلي (يعتمد النقطة الرقم 1 في الإحداثيات مع لبنان) لا قيمة قانونية له من دون موافقة لبنان على ما يتضمّنه في شأن حدوده البحرية، فأكّدت مجدّداً على النقطة 23 من الإحداثيات الجغرافية في الحدود البحرية مع إسرائيل.
هذا واعترض لبنان عبر حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي تبنّت الخريطة التي أعدّتها حكومة السنيورة، في عام 2011 لدى الأمم المتحدة، على الاتفاقية القبرصية الإسرائيلية.
رسمت مسوّدة الاتفاقية مع قبرص خريطة وضعتها لجنة من 10 مختصّين يمثّلون 6 وزارات وهيئات معنيّة
خريطة هوف
أمّا الخريطة الثانية الشهيرة التي كانت خلال السنوات الماضية مدار تفاوض، فهي تلك التي رسمها المبعوث الأميركي هوف، وذلك نتيجة اعتراض لبنان على اعتماد إسرائيل، سواء في رسالتها إلى الأمم المتحدة، أو في اتفاقها مع قبرص، الخط الذي ينطلق من النقطة الرقم 1، والذي يقضم ممّا اعتبره لبنان مساحة الـ860 كيلومتراً مربعاً.
لم يعترض أحد في حينها على الخريطة التي رسمتها لجنة الخبراء العشرة من الوزارات والهيئات المختصة برئاسة المدير العام للنقل البرّي والبحري المهندس عبد الحفيظ القيسي، إلا بعد الاتفاق الإسرائيلي القبرصي. وعلى الرغم من أنّ الاعتراضات شملت تخويناً ولوماً للسنيورة ووزير الأشغال حينذاك محمد الصفدي الذي وقّع الاتفاقية مع قبرص، فإنّ الرئيس ميقاتي أعاد تكليف شركة “سبكتروم” البريطانية بإجراء مسح جديد للحدود، قيل إنّه يعطي لبنان مساحة إضافية إلى ما يعطيه الخط 23، لكن لم يتمّ اعتماده في حينها عند إبلاغ ميقاتي الأمم المتحدة بحدود لبنان استناداً إلى تقرير جديد للّجنة الفنية التي أُعيد تكليفها من الوزارات المختصّة، والتي كرّرت تبنّي تقرير اللجنة السابقة والخريطة التي ارتكزت عليها.
كان تعاطي الجانب اللبناني مع وساطة السفير هوف بناءً على تلك الخريطة، التي تكرّست خطوطها في المرسوم الرقم 6433، الذي وقّعه كلّ من الرئيسين ميشال سليمان ونجيب ميقاتي ووزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي.
وإذا كان معروفاً أنّ خريطة هوف (تمّ التوصّل إليها عام 2012) هدفت إلى التوفيق بين لبنان وإسرائيل برسم خط “مؤقّت” يعطي لبنان أكثر من 500 كيلومتر مربّع بين الخط الرقم 1 والخط 23، يمكنه البدء بالتنقيب فيها، بينما مساحة الـ360 كيلومتراً مربعاً التي أعطاها لإسرائيل تبقى معلّقة من دون أن تعمل على التنقيب فيها، بانتظار الاتفاق النهائي بين الدولتين، فإنّ الرفض اللبناني لها منذ 2012 استند إلى الخط 23.
أدّى الرفض اللبناني لخريطة إسرائيل ولخريطة هوف إلى مفاوضات طويلة الأمد تعدَّد خلالها الوسطاء الأميركيون من هوكشتاين نفسه إلى ديفيد ساترفيلد، إلى ديفيد هيل وديفيد شينكر وصولاً إلى إعلان رئيس البرلمان نبيه برّي في تشرين الأول من عام 2020 “اتفاق الإطار” حول إطلاق جلسات التفاوض غير المباشر بين وفدين لبناني وإسرائيلي بوساطة وتسهيل من الجانب الأميركي (مثّله السفير جون دو روشيه)، وبضيافة الأمم المتحدة في مقرّ قيادة قوات الأمم المتحدة في الجنوب في الناقورة.
الخريطة الثالثة مقابل مكاسب مفاوضات برّي
ما يعرفه قلّة من المسؤولين وبعض السياسيين، أنّ الرئيس برّي الذي كان أُوكل إليه التفاوض باسم لبنان بموافقة من رئيسَيْ الجمهورية والحكومة وجرى تجديد هذا التوكيل في كلّ مرّة يتغيّر الرئيس ورئيس الحكومة، وبتأييد وتفويض من “حزب الله“، كان توصّل إلى نتائج ضمنيّة في اتصالات بعيدة من الأضواء مع الجانب الأميركي.
وحصل برّي بنتيجتها على موافقة إسرائيلية عبر الأميركيين على أكثر من 85 في المئة من مساحة الـ860 كيلومتراً مربعاً المتنازَع عليها مع إسرائيل. العارفون بتلك النتائج يقولون إنّ اتفاق الإطار جاء في هذا السياق، وإنّ المساحة المتبقّية التي يطالب بها لبنان كان يُؤمَل بأن يحصل عليها في المفاوضات غير المباشرة في الناقورة، التي دشّنها ديفيد شينكر لو استمرت مثلما هو مخطّط لها.
لكن في الجولة الثانية منها ظهرت الخريطة الثالثة التي تحدِّد الخط 29 للحدود البحرية للبنان، والتي رفضها الجانب الإسرائيلي بشدّة، واعتبر الوسيط الأميركي أنّها تنسف المفاوضات. وهذا ما أدّى إلى انزعاج الرئيس برّي من المعطيات الجديدة التي أدّت بالجانب الإسرائيلي إلى الردّ بالمجيء بخريطة تحدِّد حدود لبنان بما هو أقلّ من الخط المنطلق من الخط الرقم 1.
طوال السنوات الماضية امتلأت صفحات الجرائد وبرامج شاشات التلفزة بالتفاصيل المتعلّقة بالخرائط المتوالية التي أغرقت المشهدين الإعلامي والسياسي بالمعطيات التاريخية والفنية والتقنية والهندسية والقانونية والطوبوغرافية حول كلّ من الخرائط التي ظهرت، والتي للقارئ أو للمستمع أن يقتنع بها، أو أن يتجنّب الغوص بها لتعقيداتها، فتضيع بوصلة الموقف أو ينحاز المرء إلى الخلاصات الأكثر سهولة على الفهم.
هذا من دون إغفال تزامن كلّ مرحلة من مراحل بروز خريطة جديدة مع ظروف سياسية لعبت دوراً إمّا في رسمها أو في ترجيح صحّتها، أو في التفاوض، فيما الحسم في قضايا دولية شائكة من هذا النوع تلعب السياسة دوراً أساسياً فيه ما دام مبدأ تحديد الحدود يقوم على التسويات المبنيّة على خيارات سياسية وطنية.
التنافس الداخليّ المبكر على المنافع
من دون إهدار رصيد أصحاب المشاعر الوطنية من باحثين وأكاديميين وخبراء رسميين أو غير رسميين بغرض الحفاظ على حقوق لبنان في تزكية مطالب الحدّ الأقصى في رسم خطوط الحدود البحرية، فإنّ التدقيق في مراحل التنقّل اللبناني بين خريطة وأخرى وخط وآخر… وركود في المفاوضات أو تفعيلها، يدلّ على تزامن التخبّط اللبناني في تلك المراحل مع الجوانب الآتية:
– خضوع إطلاق التفاوض وتحديد الحدود لتنافس فرقاء على تأهيل أنفسهم ليكونوا شركاء مبكرين في استثمار منافع الثروة الغازية في عرض البحر. وهو أمر أخّر صدور قانون النفط لسنوات. يتحدّث الوسط السياسي اللبناني عن شركات تأسّست “أوف شور” من هذا الفريق أو ذاك، تحضيراً للحصول على عقود بالباطن من الشركات العالمية، التي تحتاج عملياتها في البحر إلى ما يسمّى خدمات تقنية ولوجستية هائلة في البرّ… هذا بالإضافة إلى التسويق والتجارة.
– الخلاف على صلاحيات التفاوض بين مرجعية الرئيس برّي وبين الرئاسة الأولى الذي بدأ قبل تبوّؤ الرئيس عون الرئاسة في 2016، والذي اشتدّ بعدها إلى أن أعلن برّي اتفاق الإطار مع الجانب الأميركي وسلّم بتولّي عون مسؤولية التفاوض. ويذكر اللبنانيون كيف ملأت الفضاء السياسي قبل سنوات سجالات حول أين يبدأ حفر الآبار المُحتملة، من الشمال أو الجنوب.
– إخضاع التفاوض على الحدود لحسابات فئوية من نوع ربطها بمسألة رفع العقوبات، حيث تؤكّد أوساط معنيّة بالتفاوض أنّ الرئيس عون كان من المشجّعين على تبنّي الخط 29 في مفاوضات الناقورة للمقايضة به على رفع العقوبات الأميركية عن صهره النائب جبران باسيل، وأنّه سرعان ما تخلّى عنه بعد تأكّده من عدّة مسؤولين زاروا لبنان (ديفيد هيل وفيكتوريا نولاند…) أن لا صدى لمناورة كهذه في واشنطن.
– إخضاع موضوع الثروة الغازية والنفطية لحسابات المشهد الجيوسياسي والإقليمي، وتبدّل هذه الحسابات حسب تبدّل الظروف. ففي مرحلة ما قيل إنّه على الرغم من أنّ “حزب الله” سلّم بمبدأ الوقوف خلف الدولة في ما يخصّ ترسيم الحدود وبتولّي المسؤول الموثوق به الرئيس برّي ناصية التفاوض، فإنّ في حسابه ملاءمة التقدّم أو العرقلة مع وتيرة التقدّم في مفاوضات فيينا على النووي الإيراني. لكنّ الحزب دخل مباشرة على خط الثروة الغازية والنفطية منذ أن استقدم ثلاث بواخر من البنزين والمازوت من إيران في الصيف الماضي، ثمّ أعلن قبل أسبوعين تعيين السيد نواف الموسوي مكلّفاً بملف النفط والغاز والحدود.
– بين المحلّلين مَن يرى أنّ من الطبيعي أن يكون لإيران والحزب رأي إزاء سعي الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا إلى استبدال الغاز الروسي للقارّة العجوز بالغاز الإسرائيلي والمتوسطي، بدلاً من التطلّع إلى الغاز الإيراني، وأن ينغمس الحزب في المفاوضات، ليس فقط عبر الرئيس برّي، بل أيضاً عبر مشاركة مسؤول موثوق به في تفاصيلها، وهو المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم. وفي رأي هؤلاء أنّ رفع الحزب سقف موقفه حيال مباشرة إسرائيل استخراج الغاز من حقل كاريش عن طريق السفينة “إينرجين باور”، هو من عُدّة التفاوض، استلحاقاً لِما ضاع من الوقت.
– تشمل الحسابات الجيوسياسية أيضاً سعي الولايات المتحدة الأميركية ضمناً إلى إبعاد روسيا عن الشراكة في سوق الغاز والنفط الذي يمكن أن ينشأ في لبنان، والذي دخلته موسكو عن طريق ضمّ شركة “نوفاتيك” الروسية إلى كونسورتيوم الشركات الذي كسب التزام الدورة الأولى من تراخيص التنقيب عن الغاز في عام 2018. ولم تخفِ واشنطن انزعاجها من توقيع عقد تلزيم شركة ناشئة بالتعاون مع شركة “روزنفت” الروسية، من أجل إعادة بناء وتأهيل مستودعات النفط في طرابلس، وهي تريد إفشال هذا العقد.
حين تختلط وقائع التفاوض التقنية على الحدود البحرية مع التناقضات والصغائر اللبنانية الداخلية والظروف والحسابات المتعلّقة بلعبة الأمم، يصبح مستحيلاً على المواطن اللبناني العاديّ التمييز بين ما يجري الترويج له من الخرائط والخطوط الحدودية، إلى أن يصل التفاوض إلى نتيجته النهائية.