أين يقع لبنان اليوم؟

كتب د. نسيم الخوري في صحيفة الخليج.
يبدو لنا أنّ البحث العقلاني والهادئ المنطقي والموثّق المُذيّل ب«تاريخ لبنان» ومستقبله غائب يتنكّر بادّعاء لدى العديد من مسؤوليه وجماعاته إلى منحدرات غريبة ومتجاهلة ومخيفة، بل يبدو الصباح مفقوداً تائهاً عبر النزاعات الداخلية الضيقة لدى معظم كبار مسؤولي لبنان في الداخل وحتى بين الشاشات ووسائل الإعلام والتواصل مهما اختلفت مراتبهم ومواقعهم ودرجاتهم ووظائفهم. تنوعت المظاهر والمواقف وتشاوفت الادّعاءات وتنافرت وتقاتلت بغرض قياس قوّة التأثير للقرار في الداخل والتعامي عن منطق إيصاله إلى الخارج ولو جاء مصطلحاً بسيطاً أو مفهوماً ثابتاً أو عنواناً جريئاً محدّداً وموضوعياً ومطمئناً لما تنتظره مجموعات اللبنانيين التائهين اليوم وغداً وبعد غد خارج منطق تلقّف القرارات.
ليس لي أن أحتسب هذا الغد بالسنوات أو بالأيام والساعات.. لماذا؟ ببساطة وصراحة كليّة: لأنّ تحديد موقع لبنان بين اللبنانيين مُقيمين ومغتربين وعبر مساحات دول العالم الكبرى والصغرى بمسؤوليها التاريخيين أو فوق الخريطة العالمية لا ولم ولن يكون أو سيكون عبر تلك النقطة اليتيمة، أعني الأرزة الخضراء في قلب العلم اللبناني وتكاد لا تُرى بوضوح عبر رياح ساحات المؤسسات الدولية من مجلس الأمن والأمم المتحدة إلى مقار السفارات اللبنانية في العالم، وعبر اللبنانيين المغتربين المُقيمين في مواقع القرار في الدنيا أو الباقين فيه يتناسلون أجيالاً هاجرت وتُهاجر أو أُقعدت تاريخياً أسرى الصراعات والحروب الطائفية والمذهبية والحزبية الداخلية والخارجية المتداخلة أو المستوردة، فأورثت الخرائب والقتلى وتدفقات المهاجرين زرافاتٍ نحو عواصم الدنيا ودوائر القرارات علّها تكشف كلمات السر ومفاتيح السياسات الدولية بما يُسعف مستقبل وطنهم بعدما استوطنه القلق والأرق حيال ما يُكشف ويُنشر تاريخياً من الداخل نحو الخارج بارزاً في اختلاف ألسنتهم وثقافاتهم وحضورهم وتلوّن مواقفهم في الداخل والخارج.
لماذا أيضاً؟ لأنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المقيم في شاشات العالم، وللمرّة الثانية في البيت الأبيض، نراه مقيماً في لبنان أيضاً وفي غزّة والمنطقة العربية موعوداً بجائزة السلام العالمي. ومن لا يعرف قيمة الوعد يمكنه البحث عنه وعن معانيه عبر التاريخ في «غوغل». لا ولن ننسى أن الرئيس ترامب الأب مقيم وحاضر بقوة أيضاً وأيضاً بين صهرين واحد لبناني الأصل وآخر إسرائيلي وحوله بنات وأحفاد يشغلون وسائل التواصل الاجتماعي في العالم يتواصلون معهم/معهن عبر إكس أو يوتوب وو.. إلخ.
ولأن لبنان، ثانياً وبالمناسبة، يترقب وصول ميشال عيسى المولود في عمشيت في جبل لبنان وهو رجل الأعمال والخبير المالي والرئيس التنفيذي لمجموعة نيوتن للاستثمار الذي سبق وتلقى علومه في فرنسا ويأتي تعيينه سفيراً لأمريكا في لبنان حافلاً بمعانٍ وأسرارٍ كبيرة لمن يحترم الأسرار في أكبر سفارة لأمريكا في الشرق الأوسط. وبالمناسبة، وعلى سبيل الإشارة وفي خطوة لافتة ذات معانٍ، لاحظنا بعد انتهاء مؤتمر صحفي للرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض، تسابق المراسلين يوماً لطرح أسئلتهم عليه فما كان منه سوى الإشارة بإصبعه إلى أنتوني مرشاق مراسل محطة ال MTV اللبنانية ليطرح سؤاله عليه أوّلاً. وأكثر من ذلك، كان طلابي يثيرون معي معنى أن نرى مرشاق مدمناً وحيداً يذيع رسائله نحو العالم من أمام أعمدة مدخل البيت الأبيض. هنا لا تنتهي الإجابات والتقديرات والأسرار في العلاقات الدولية.
لماذا أيضاً وأيضاً؟ لأن المبعوث توم بارّاك هو ابن زحلة من البقاع اللبناني صديق للرئيس دونالد ترامب كان رئيس اللجنة لتنصيب ترامب رئيساً وقد اختاره مبعوثه الخاص نحو لبنان المُبهم المتحير عبر الأقنية السياسية المتنوعة، لذا نراه هزّ اليباس الكثيف في غابات الأشجار السياسية الهرمة المتداخلة والمتنازعة في آن فما كان من بارّاك إلا أن سحب تصريحاً غاضباً واصماً الورقة الدوّارة بأنها كلام بكلام.
ولماذا أخيراً لا آخراً؟
لأنّ أي مصطلح سلامٍ يضيع بين صبح ومساء ولسانٍ وآخر وضياع المسؤولين هنا بين دولةٍ وأخرى ومبعوث وآخر شرقاً وغرباً بما يورث النفور والإهمال لدى الخارج.. كل خارج.
أكاد أجزم أخيراً أنّ الموقف خطابي سريع ونزوي وهو غير المصطلح تماماً سواء أتى بصيغ التكاذب المفرد أو الجامع وفقاً للطائفة والمذهب والموقع أو الطموح الأزلي سياسياً لعتاة المناصب.
يبدو الموقف المسؤول ركيكاً في لبنان مهلهلاً صغيراً عائلياً مذهبياً نفعياً بينما المصطلح وأعني به سرّ لبنان المغترب الذي يبدو في فهم الأمم قرارات مضيئة قوية لها أوزانها ومؤشراتها وإشاراتها. وكي لا أُطيل برصف الصفات أعتقد أن من أدمنوا تقاذف الهتافات المُلتهبة في الساحات اللبنانية لن يعيدوا بناء لبنان الذكاء والحضور والفعالية والمشاركة اللائقة الراقية في المحافل الدولية، سواء أكان الغارقون في تعفّن الداخل اللبناني المقيت والخطر مسؤولين أو مواطنين ضائعين وهائمين وتائهين بحثاً عن موقع هذا اللبنان ومستقبله وحضوره كما دول المحيط والعالم في دوائر القرار العربي والغربي وبالصوت العالي، إذ من المُخجل والمستحيل عدم تحدّي كلّ مسؤول الإجابة عن السؤال الذهبي: أين يقع لبنان اليوم؟.