رأي

أكذوبة الرأي العام الحاضر الغائب في الواقع العربي؟

كتب حسني محمد في “العربي الجديد”:

يدهشك بعض المسؤولين العرب عندما يصرّون على ترديد مزاعم توارثوها جيلا بعد جيل، تؤكد أن قراراتهم وأفعالهم تصدر بناء على معرفة كاملة غير منقوصة بما يريده الرأي العام، وأنها تصبّ في صالح المواطنين، مع أن أحدا لم يسأل هؤلاء المواطنين عن رأيهم قبل إصدار تلك القرارات. وهي الدهشة نفسها التي تصيبك عندما تسمع من المسؤول أو ممن حوله أنه يواصل العمل ليلا ونهارا ويحرم نفسه حتى من النوم، ويضحّي بالغالي والنفيس من أجل خدمة الشعب، والسهر على راحته، رغم أن أحدا لم يطالبه بذلك، ويتمنّى له الجميع أن يخلد إلى الراحة، ويترك المنصب “المرهق” لغيره.
تأسيسا على تلك المزاعم، تصدر مئات القرارات والقوانين التي تعدل عشرات المرّات بعد ذلك، وتُشرع الدساتير التي يضعها الحاكم بنفسه في بعض الأحيان، بوصفه المعبّر الوحيد عن الرأي العام في بلاده، وتجرى لها الاستفتاءات المزيفة، وتبقى قائمة فقط إلى أن يأتي رئيس جديد يلغي دستور من سبقه، ويضع دستوره الجديد وفق المعادلة المتوارثة نفسها. والخطير أن قرارات مصيرية في حياة الدول والشعوب، مثل قرارات الحرب والسلام، والتفريط في الحقوق الوطنية، تُتخذ من خلال شخص واحد، يظن، وبعض الظن إثم، أن العناية الإلهية وحدها قد اختارته من بين الملايين لقيادة الشعب القاصر، الذي لا يستطيع أن يقرّر لنفسه وبنفسه، ورعاية مصالحه. ولذلك، من حقه أن ينوب عن الجميع، ويفرض عليهم ما يراه من دون سؤال أو مراجعة.
أستطيع أن أزعم، كباحث في الإعلام والرأي العام، إن كل من مروا على المناصب العليا في الدول العربية بعد الاستقلال لم يفكروا يوما في ما يسمى “الرأي العام”، ولم يضعوه في اعتبارهم في قراراتهم وأفعالهم، بل استهانوا به ولم يعيروه اهتماما، لأنهم يدركون جيدا أنهم لم يأتوا إلى السلطة نتيجة اختيار حر ونزيه من الشعوب، وأن بقاءهم في هذه السلطة لا يتوقف على رضا الرأي العام أو عدم رضاه. وقد دفعت دول وشعوب عربية عديدة ثمنا فادحا للقرارات الفردية العلوية التي لم يستشر فيها “الرأي العام”. وما أكثر تلك القرارات التي اتخذتها أنظمة عربية عديدة في التاريخ العربي المعاصر، وثبت أنها كانت خاطئة، وكان يمكن تجنّبها لو عادت الدولة العربية إلى مواطنيها واستطلعت آراءهم بشأنها قبل الإقدام عليها. وتمكن الإشارة هنا إلى نموذجين تاريخيين من دولتين عربيتين كبيرتين، مصر والعراق.

ما زال الشأن السياسي والاقتصادي والعسكري يدار في الدول العربية بالمنطق نفسه الذي يتجاهل الرأي العام

بدأت في مصر القرارات الفردية في أعقاب نجاح حركة الجيش في مثل هذه الأيام من 1952، سواء للرئيس الراحل جمال عبد الناصر أو مجلس قيادة الثورة بقرار الانقلاب على رئيس الجمهورية اللواء محمد نجيب، الذي كان يؤيد عودة الجيش إلى ثكناته وإعادة الحكم للمدنيين، ومن ثم إلغاء الحياة السياسية وحل الأحزاب، مرورا بقرارات التأميم التي شملت تأميم الصحافة للسيطرة على الشكل الوحيد المتبقي للتعبير عن الرأي العام، ثم قرار المشاركة في حرب الكونغو 1960 التي يقال إنها استنزفت نصف احتياطي مصر من الذهب في ذلك الوقت، ثم حرب اليمن التي دخلتها مصر في 1962 وكان لها أثر كبير في إضعاف الجيش المصري، وهو ما مكّن إسرائيل من إلحاق الهزيمة (النكسة) بمصر في حرب 1967. واستمرّت القرارات الفردية مع الرئيس الراحل أنور السادات، وأبرزها قرار زيارة إسرائيل في 1977، وما ترتب عليها من توقيع اتفاقات كامب ديفيد 1979. اتخذت كل هذه القرارات في الغرف المغلقة، ومن دون العودة إلى “الرأي العام” المصري، الذي كان يمكن أن يعارضها كلها، ويجنب الدولة كل تلك الخسائر التي ترتبت عليها.
إذا انتقلنا إلى العراق، نجد أن بعض قرارات الرئيس الراحل صدّام حسين أدخلت العراق، الذي كان يشهد نهضة تنموية كبيرة في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، نفقا مظلما من الحروب العبثية، وتبديد ثروة واحدة من أغني الدول العربية في ذلك الوقت. دخل صدّام حرب الأعوام الثمانية مع إيران من دون استطلاع الرأي العام العراقي، وخرج منها من دون انتصار، وبكم هائل من الخسائر البشرية والمادية، وهو ما دفعه بعدها إلى اتخاذ قراره الكارثي الثاني بغزو الكويت، الذي جلب للعراق والمنطقة كلها مشكلات لا حصر لها مازالت تعاني من تبعاتها. وخرج العراق من هذا الغزو بهزيمة عسكرية ساحقة أكلت الأخضر واليابس، وحمّلت الشعب العراقي سنوات طويلة من الحصار الدولي الظالم الذي انتهي بالغزو الأميركي البريطاني، ومن ثم احتلال العراق.
ورغم وضوح درسي مصر والعراق التاريخيين، لم يتعلّم العرب منهما شيئا، وما زال الشأن السياسي والاقتصادي والعسكري يدار في الدول العربية بالمنطق نفسه الذي يتجاهل الرأي العام، وما زال من المسؤولين العرب من يعتقد أنه مرسلٌ لقيادة الشعب، وأنه وحده قادر على معرفة كل شيء. ولذلك نجد من يلغي برلمانا منتخبا ويعطل الحياة السياسية ويتدخل في القضاء ويبرم التحالفات الدولية ويضع دستورا جديدا لنفسه وبنفسه، بزعم أنه الوحيد من ملايين البشر الذى يدرك ما تحتاج إليه البلاد في كل المجالات، وإنه “الملهم” الذي يتخذ القرارات التي تحقق مصالح الشعب من دون الحاجة إلى استطلاع رأي هذا الشعب. ولو كان هذا صحيحا، لما شاهدنا هذا التراجع على جميع المستويات الذي تشهده دول عربية عديدة نتيجة الانفراد بالقرار.

لماذا تخشى الأنظمة العربية إجراء استطلاعات نزيهة وحقيقية للرأي العام، تقوم بها مراكز بحثية مستقلة؟

السؤال الذي يفرض نفسه أمام ظاهرة تغييب الرأي العام العربي: لماذا تخشى الأنظمة العربية إجراء استطلاعات نزيهة وحقيقية للرأي العام، تقوم بها مراكز بحثية مستقلة، مكتفية بالتقارير الرسمية التي تعدّها، من داخل المكاتب، أجهزة المعلومات والأجهزة السيادية التي تستهدف في المقام الأول إرضاء النظام؟ والإجابة أن هذه الأنظمة تخاف من إعلان نتائج هذه الاستطلاعات، خصوصا أنها تدرك أن قراراتها وأفعالها لا ترضي الناس أو غالبيتهم على الأقل.
هل يستطيع نظام عربي تحمل نتائج استطلاع للرأي العام على نمط استطلاعات مؤسسة غالوب لاستطلاعات الرأي العام التي يعود تاريخها إلى العام 1935، وتجري استطلاعات منتظمة للرأي العام في الولايات المتحدة وأكثر من 140 دولة؟ بالتأكيد لا. المثال على ذلك الاستطلاع الذي نشرت المؤسسة نتائجه على موقعها في 25 يوليو/ تموز الجاري بشأن “الثقة في المؤسسات الأميركية”، وأكدت فيه انخفاض معدل ثقة الأميركيين في مؤسّساتهم ليصل إلى 27% فقط، وتراجع تلك الثقة في 11 مؤسسة من أصل 16 مؤسسة شملها الاستطلاع من 1 إلى 20 يونيو/ حزيران الماضي. إذ انخفض معدل الثقة إلى 25% في المحكمة العليا، و23% في مؤسسة الرئاسة والرئيس بايدن، و31% في الكنيسة، و16% في الصحف، و11% في أخبار التلفزيون، و14% في العدالة الجنائية، و14% في الشركات الكبيرة. وبلغت الثقة أدنى مستوياتها في الكونغرس 7%، فيما بلغت 64% في الجيش و45% في الشرطة.
هل يستطيع مركز بحثي عربي مستقل في بلد عربي أن يجري مثل هذه الاستطلاعات للرأي العام؟ وإذا أجراها، فهل يستطيع أن يعلن أن الثقة في الرئيس ومؤسسة الرئاسة منخفضة كما قالت “غالوب” عن الرئيس بايدن؟ عندما يحدث ذلك، يمكن القول إننا بدأنا السير في الطريق الصحيح، وإلا سنبقى بعيدين عن الرأي العام ومتطلبات قياسه، ومن الأفضل أن نتوقف عن الحديث عنه أو تدريسه للطلاب مقرّرا دراسيا في كليات الإعلام وأقسامه.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى