هل نحن مذنبون بسبب تغاضينا أكثر من اللازم عن التضخم؟
كتب كريس براينت في “بلومبرغ “:
عندما ظهر التضخم في ستينيات القرن الماضي، لم يتذمر الناس فقط من ارتفاع الأسعار، بل قاموا بوقفات احتجاجية أمام المتاجر المحلية، الآن حان الوقت ليقاوم هذا الجيل من المستهلكين بشكل أكبر زيادات الأسعار غير الضرورية، إذ قد يساهم ذلك في تجنب مزيد من رفع أسعار الفائدة الذي يتسبب في خسائر. فيما يعد أخباراً سارة، يبدو أن الحركة المناهضة للتضخم تكتسب زخماً.
لم يكن في الحسبان أن يصبح بول دونوفان، كبير الاقتصاديين في “يو بي إس غلوبال ويلث مانجمنت” (UBS Global Wealth Management)، ثورياً. في مذكرة كتبها مؤخراً حول كيفية إذكاء أرباح الشركات نيران التضخم، اقترح دونوفان حلاً جذرياً فيما يبدو، وهو ثورة المستهلكين على زيادات الأسعار غير العادلة، إذ كتب: “إقناع المستثمرين بعدم قبول زيادات الأسعار بسلبية، يُعد وسيلة من المحتمل أن تكون أسرع وأقل ضرراً من عكس مسار التضخم المدفوع بهوامش الأرباح”.
هل تنجح حملات المقاطعة؟
لم تنجح حملات مقاطعة متاجر البقالة، التي قادتها النساء خلال الستينيات في اميركا في نهاية الأمر، وما قضى على التضخم بعد سنوات عدة كان رفع الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة إلى مستويات قياسية. لكن المستهلكين اليوم يملكون أداة أكثر فعالية بكثير من اللافتات، وهي وسائل التواصل الاجتماعي.
قد يُقنع بعض الانتقاد المنطقي على الإنترنت، الشركات بكبح زيادات الأسعار طواعية، وذلك لحماية علاماتها التجارية وتفادي رد فعل سياسي أكثر تشدداً.
أشار دونوفان إلى حملة مقاطعة الجبن القريش الإسرائيلي في 2011، التي سريعاً ما كبحت الأسعار المرتفعة. وكانت الحملة الإعلامية في بريطانيا ، التي أعقبت الأزمة المالية وأُطلق عليها “نهب بريطانيا” (Rip off Britain)، ضد أسعار الغذاء المبالغ فيها، فعالة للغاية أيضاً.
محاولات مقاومة زيادات الأسعار
يبدو إعطاء نجمة واحدة في تقييم غوغل لمتجر محلي يبالغ في الأسعار، أو حملة على تطبيق “تيك توك
” ضد نشاط أكبر، معادياً لذلك النشاط التجاري. لكن ذلك في الواقع أفضل بكثير للاقتصاد وأسعار الأسهم من رفع أسعار الفائدة بشكل كبير، ما يتسبب في بطالة غير ضرورية. بخلاف ذلك، سيحاول العمال حماية قوتهم الشرائية عبر التفاوض للحصول على أجور أعلى، وسترد الشركات بمزيد من رفع الأسعار.
فكرة أن توسّعَ أرباح الشركات تعطي دافعاً كبيراً للتضخم، كانت تقتصر في الأغلب على النقابات العمالية واليساريين من الأكاديميين، لكن مصرفيي البنوك المركزية يأخذونها على محمل الجد الآن.
عوضاً عن حثّ العمال على التخلي عن زيادات الأجور الكبيرة العام الماضي، أصبح محافظ بنك أندرو بيلي، يطالب الشركات بالتحلي بضبط النفس في تحديد الأسعار، وهي خطوة ذكية.
نظرية التضخم المدفوع بالأرباح
نظرية التضخم المدفوع بالأرباح باختصار، هي تعوَّد المستهلكين على قبول زيادات الأسعار المفرطة بسبب سيل من الأنباء السيئة والصدمات الاقتصادية أولها الجائحة، ثم أزمة سلسلة الإمداد، ومؤخراً الغزو الروسي لأوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة.
بدأت فكرة أن أسعار كل السلع ينبغي أن ترتفع كثيراً تبدو معقولة. لذا ظهر مصطلح التضخم المصحوب بالذرائع (excuseflation) الذي صاغه أصدقاؤنا القائمون على بودكاست “أود لوتس” (Odd Lots).
لذلك كان المستهلكون أقل حساسية بكثير تجاه الأسعار عن توقعات الشركات، بعدما ساعدتهم المدخرات التي كوّنوها خلال بدايات الجائحة. وعوضاً عن محاولة تقويض بعضها البعض لزيادة حصصها في السوق، قررت الشركات أنه من الأفضل بيع كميات أقل مقابل أسعار أعلى.
قلّصت بعض الشركات إمدادها من السلع الأساسية منخفضة التكلفة للدفع بعلاماتها التجارية تجاه الشرائح الأعلى في السوق. في المتوسط، ازدادت تكلفة كل مركبة باعتها شركة (Mercedes-Bens Group AG) زيادة مدهشة بلغت 43% منذ 2019، فيما قال رئيس لوفتانزها الألمانية، كارستن سبور، الشهر الماضي إن أسعار تذاكر الطيران الأعلى ممتعة للغاية.
شكوك حول زيادة الأسعار
كانت وجهة نظر الشركات أن المستهلكين أحبوا علاماتها التجارية. لكن التفسير الأكثر منطقية هو أن العديد من الناس لم يختبروا تضخماً كبيراً خلال حياتهم كبالغين، ولم يستطيعوا إلى حد كبير إدراك أن الأسعار الأعلى كانت عادةً أكثر من كافية لتعويض التكاليف المتزايدة للشركات.
بدأ المستهلكون التشكيك عن حق فيما إذا كانت زيادات الأسعار دوماً مبررة. تراجعت أسعار مدخلات الإنتاج الرئيسية، مثل الغاز والطاقة والسلع الزراعية والشحن والسماد، في الأشهر الأخيرة. كما قالت بعض الشركات، مثل سلسلة الحانات البريطانية “جيه دي ويذرسبون” (JD Wetherspoon)، إن اختناقات الإمداد اختفت بشكل كبير. واعتدلت أيضاً توقعات المستهلكين للتضخم المستقبلي.
هناك علامات أخرى تدل على أن المتسوقين بدؤوا يصلون إلى نقطة انعطاف. ارتفعت الأسعار التي تحددها مجموعات السلع الاستهلاكية الأوروبية 10.4% في الربع الأخير من 2022، وهو أعلى مستوياتها خلال عامين، لكن حجم السلع المُباعة انخفض 2.2%، وهو أيضاً أعلى مستوى له خلال تلك الفترة، وفقاً لـ”برنستين ريسيرش” (Bernstein Research). في الولايات المتحدة، تتراجع مدخرات الأسر، كما بدأت هوامش أرباح الشركات تنكمش.
تعامل المستهلكين مع التضخم
قال دونوفان من “يو بي إس”، في رسالة بالبريد الإلكتروني: “إذا كانت هناك شكوك عامة تحوم حول الدوافع وراء زيادات الأسعار في اقتصاد ما، سيكون هناك ميلٌ لتقليص توسيع هوامش الأرباح”.
حتى الآن، تعامل المستهلكون في الأغلب مع التضخم في صمت، على سبيل المثال من خلال الانتقال من منتجات شائعة الاستهلاك بين الأسر إلى تلك التي تحمل العلامات التجارية الخاصة الأرخص ثمناً من إنتاج السوبر ماركت نفسه، إذ يتحولون من المتاجر التي تطرح السلع الأساسية مثل “ألدي” و”ليدل”، أو إطالة أمد استهلاك المنتجات التي يقومون بشرائها.
لكن التذمر من الأسعار تحول في بعض الأحيان إلى معارضة صريحة. في نوفمبر الماضي، استخدم المتسوقون “فيسبوك” للشكوى من “دبليو إم موريسون سوبرماركتس” (WM Morrison Supermarkets) بسبب بيع علبة تحتوي على 240 كيس شاي من “يوركشير تي” (Yorkshire Tea) مقابل 8.25 جنيه إسترليني (10.29 دولار). كما واجهت شركات اتصالات بريطانية انتقادات مشابهة بعدما رفعت الأسعار 14% بدءاً من هذا الشهر.
حدود قوة التسعير
تكتشف الشركات أن قوتها في التسعير لها حدود، وأن الجشع المفرط قد يضر بعلاماتها التجارية. رفعت شركات إنتاج البيرة في الولايات المتحدة الأسعار بشكل مبالغ فيه العام الماضي، ثم شهدت تراجع الطلب.
بوب إيغر، الذي شغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة “والت ديزني” (Walt Disney) سابقاً ثم عاد إليه مجدداً، أقرَّ الشهر الماضي أن الشركة أفرطت في رفع الأسعار في مدن الملاهي الخاصة بها.
هناك بالطبع خطر أن غضب المستهلكين يصب في الاتجاه الخاطئ. تسببت “كال-ماين فودز” (Cal-Maine Foods)، أكبر شركة منتجة للبيض في الولايات المتحدة، في موجة من الغضب الشهر الماضي حينما أعلنت عن زيادة في الأرباح تفوق 700% بفضل أسعار البيض المرتفعة.
لكن لا يمكن إلقاء اللوم على الشركة لموجة إنفلونزا الطيور التي تقلص الإمداد من الدجاج حالياً. رغم ذلك، فإن شكواها من ارتفاع تكلفة الإنتاج ربما لم تكن خطوة حكيمة، إذ ارتفعت هوامش أرباح التشغيل في الشركة من 8% إلى 41% خلال العام الماضي.
غضب شعبي ضد السوبر ماركت
عادةً ما تكون متاجر السوبر ماركت الهدف الأول للغضب الشعبي بشأن الأسعار، لكن هوامشها متواضعة مقارنةً ببعض مورديها. يمكن لسلاسل المتاجر الكبيرة بذل مزيد من الجهد لدفع هؤلاء الموردين لتبرير الزيادات الإضافية.
أدى خلاف متجر “تيسكو” (Tesco) حول الأسعار العام الماضي مع شركة “كرافت هاينز فود” (Kraft Heinz Food)، الذي أُطلق عليه “بينزغيت” (Beansgate)، إلى اختفاء الفاصوليا المطبوخة والكاتشب في المتجر لفترة من الوقت.
في يناير الماضي، قال رئيس مجلس إدارة “تيسكو” إن الشركة “اختلفت” مع موردين عدة بشأن زيادات الأسعار الخاصة بهم، رغم أنه لم يحدد هذه المتاجر.
عندما يرى العديد منا السعر المعلن لتذكرة طيران أو حجز فندق خلال الأشهر المقبلة، ستنطلق ألسنتنا بالسباب بصوت عالٍ ونجري عملية الشراء في كل الأحوال.
لكن شراء منتج أو الدفع مقابل خدمة رغم علمنا أن السعر مبالغ فيه، يؤجج استمرارية التضخم. يجب تحدي الشركات لتبرير زيادات الأسعار، وعلى المستهلكين ألا يخافوا من الشكوى إن لم يشعروا بالرضا.