الحرب السودانية تستعد لمغادرة مكانها
كتب محمد أبو الفضل في صحيفة العرب.
الحماس الأميركي المفاجئ للاشتباك سياسيا مع الأزمة السودانية يؤكد أن طريق العقوبات الاقتصادية لم يف بالغرض وكان إبراء ذمة أو إيحاء بالاهتمام وليس عنصرا فعالا في الضغط على طرفي الحرب.
يعبّر النشاط الظاهر على بعض التحركات الإقليمية والدولية حيال الأزمة السودانية أخيرا عن ضجر إنساني وسياسي لما وصل إليه الصراع العسكري بين قوات الجيش والدعم السريع، والذي بدأ يحرج بعض القوى ويصورها كأنها مرتاحة لاستمرار الحرب أو غير عابئة بالخسائر البشرية الناجمة عنها، وما يمكن أن تحدثه من تغيرات جيوستراتيجية بعد اقتراب دول مثل روسيا وإيران من تفاصيل الحرب.
كشفت الدعوة الأميركية لعقد اجتماع بجنيف في الرابع عشر من أغسطس المقبل عن جدية افتقدتها واشنطن في التعامل مع الأزمة، بعد أن حصرت دورها في شجب ومناشدات وإدانات، وفرض عقوبات اقتصادية غير مؤثرة على طرفي الصراع.
ولم تترك دعوة وزارة الخارجية الأميركية للاجتماع مجالا للاختيار، حيث حددت الزمان والمكان والقوى المشاركة من دون منح فرصة للتفكير في القبول أو الرفض، ما يضفي مصداقية أعلى هذه المرة، ويشير إلى إمكانية تحقيق تقدم كبير.
كما أن مواصلة القتال بالصورة الراهنة تصعّب من مهمة التسوية السياسية، فقوات الدعم السريع تتمدد عسكريا في أماكن عدة، والجيش السوداني يواجه عقبات متكررة في مناطق مختلفة، والقوى السياسية والمدنية عاجزة عن طرح تصورات عملية تجعلها ملتفة حول رؤية واحدة، وزادت المبادرات الإقليمية التي توحي برغبة الجهات التي أطلقتها في إثبات الوجود وتعظيم النفوذ أكثر من السعي نحو حل أزمة ساخنة يمكن أن تنفجر روافدها في المنطقة بشكل يضاعف من انتشار الفوضى.
وبقدر ما يعكس موزاييك المبادرات، من جنيف إلى المنامة إلى القاهرة وأديس أبابا وكمبالا وجوبا وجيبوتي وحتى جدة، اهتماما بالسودان، لكنه يسهم في سباق خفي بين القوى التي تقف خلفه أو تحركه، ويساعد هذا السباق الطرفين المتصارعين على الهروب من جهة إلى أخرى إذا لم يكن راغبا في التجاوب مع مبادرة معينة، وهو سلوك يطيل أمد الحرب، حيث ينطوي بازار المبادرات على تشتيت الجهود وعدم الاستعداد لدعم مبادرة رئيسية، ويجهض هذا الاتجاه ما يمكن أن يحققه أيّ مسار.
يؤكد الحماس الأميركي المفاجئ والصارم للاشتباك سياسيا مع الأزمة السودانية أن طريق العقوبات الاقتصادية لم يفِ بالغرض منه، وأنه كان دعاية أو إبراء ذمة أو إيحاء بالاهتمام وليس عنصرا فعالا في الضغط على طرفي الحرب. وتيقنت واشنطن بأثر رجعي أن هذه الطريقة لن تجدي في السودان، إذ جربتها ولمدة عقود مع نظام الرئيس السابق عمر البشير ولم تحصل على النتيجة المرجوة منها.
تبدو الاستدارة السياسية هذه المرة لها دوافعها لدى إدارة أميركية تواجه تحديات إقليمية وعرة، ففي كل الأزمات التي اقتربت منها لم تتمكن من تهدئتها، وظهرت في صورة من يعجز عن فك طلاسمها، والسودان الذي عيّنت له مبعوثا خاصا به (توم بيريلو) أخفق في زحزحة الأزمة من مكانها، وبدا متفرجا أكثر من كونه دبلوماسيا مؤثرا، وحصر دوره في مناقشات وحوارات واجتماعات بلا نتيجة سياسية.
تريد واشنطن جمع غالبية القوى المعنية بالأزمة والمؤثرة في جوانبها على أرض سويسرا، لما تحمله من رمزية سياسية غير منحازة، فوجهت الدعوة لمصر والإمارات والاتحاد الأفريقي، وحافظت على رعايتها والسعودية والأمم المتحدة، لتعزيز وتطوير منبر جدة الذي قطع شوطا جيدا عقب اندلاع الحرب، ولا تريد التفريط في ما حققه من تقدم على مستوى الأفكار والطروحات وعملية تطبيقها على الأرض، ما يدعم فرص مغادرة الأزمة السودانية لمكانها المتجمد.
أظهرت جهود قوى عديدة أهمية وقف إطلاق النار في السودان، بعد تزايد الخلل في موازين القوى، إذ كشفت تطورات الحرب عن تفوق كبير لقوات الدعم السريع وتراجع لعناصر الجيش في معارك متباينة.
وإذا استمرت الانتصارات، ففرص المفاوضات سوف تتراجع، لأن الطرف الأقوى ميدانيا يريد أن يفرض كلمته، وهو ما ترفضه الجهات التي تقف في خندق الجيش صراحة أو ضمنيا، وربما أيضا تلك التي تقف بجانب الدعم السريع من وراء ستار، لأن النتيجة المتوقعة في هذه الحالة هي المزيد من الاقتتال، حيث توجد قوى داخلية وخارجية تخشى من مغبة تفوق الدعم السريع بصورة كاسحة في الحرب.
يخشى المؤيدون للمؤسسة العسكرية كثافة الحركات المسلحة والجيوش غير النظامية، وما يفضي إليه استمرار القتال، وما يسفر عنه من تغير في الانحيازات، فإذا غاب الجيش سوف تزداد الميليشيات رواجا، ما يؤثر على الاستقرار أو الهدوء النسبي في بعض الدول المجاورة، فكلاهما سوف يعاني من الارتدادات السلبية لانتعاشها.
ويخشى المؤيدون لقوات الدعم السريع من دخولها حرب استنزاف متقطعة في جبهات متعددة، فانهيار الجيش السوداني لا يعني تمكنها من فرض سيطرتها تماما على البلاد، وقد يفتح الباب لصراعات مناطقية ما لم يكن قادة الدعم يملكون رؤية سياسية واضحة للمستقبل، وفي ظل التطورات الراهنة فالرؤية غائمة، والاستنفار على أشده.
ولا يكفي تحقيق انتصارات عسكرية لتمكين الدعم السريع من فرض سيطرتها عمليا، فمساحة السودان الكبيرة والممتدة لن تسمح لأيّ قوة أن تحكمه في غياب توافقات عامة تحقق تطلعات المكونات الاجتماعية والثقافية والسياسية والتشكيلات المسلحة القوية، وفي غالبيتها متصادمة وتعارضه، وهي إحدى السمات التي جعلت هذا البلد شقيا على مدار العقود الماضية.
يمكن تفسير هذه المسألة من خلال عدم معارضة قوات الدعم السريع لأيّ من المبادرات الرامية لوقف الحرب، فقادتها يدركون أن حكم السودان يحتاج إلى تفاهمات ترضية، وهو ما لم يصل إلى عقل قادة الجيش، وإن وصل إلى بعضهم يصطدم بتيار معارض في صفوفه وبين جدرانه.
ولذلك قد تنضج الأجواء أمام حديث جاد يرمي إلى وقف الحرب الفترة المقبلة. فالطرفان المتصارعان أرهقا عسكريا، مع تفاوت في نسبة الإرهاق وتباين في المكاسب والخسائر على الأرض، وعدم استعداد القوى الإقليمية والدولية، التي صمتت أو تراخت أو اعتقدت في قدرة الجيش على الحسم للانتظار كثيرا، خوفا من انفراط عقد السودان ودخوله حروبا مناطقية طويلة، تستغلها قوى طامعة في التسلل إلى مفاصل أفريقيا وفرض هيمنتها عليها.
وهذه واحدة من المحددات التي حرّضت الولايات المتحدة على التحرك أخيرا، فهي تشاهد روسيا وإيران وتركيا تتمدد في مناطق عدة في القارة، ويعد السودان بصورته الراهنة مغريا لتدخلاتها، بما يخل بتوازنات غربية تجعل واشنطن في المستقبل أسيرة لردات فعل من جانب آخرين، الأمر الذي يشجعها حاليا على التحرك سريعا والقبض على زمام اجتماعات جنيف، ورعايتها لفترة حتى تغادر الحرب مكانها أو تهدأ، ويتم تحديد البوصلة للسودان الجديد.