رأي

دروس الكحّالة

كتب طوني فرنسيس في صحيفة نداء الوطن.

لم يتحمّل قادة البلد وأحزابه المسؤولية عندما «فتحت الكحالة النقاش» للمرة الأولى قبل أكثر من خمسين عاماً في حادث كوعها الشهير مع الموكب الفلسطيني المسلح. وبدلاً من تحسس حجم التوتر والمخاطر التي كان لبنان يندفع ويُدفع إليها، ساد الترقيع سنين قليلة قبل أن تنفجر الأوضاع كلياً فيُدمر البلد ويدفع سكانه عشرات الألوف من أرواح أبنائهم ومليارات الدولارات في ممتلكاتهم، إضافة إلى هجرةٍ وتهجير غيّرا وجه وطن وأجيال.

كان يمكن أن تتحول حادثة الكوع قبل نصف قرن إلى مدخل لنقاشٍ جدّي ومخلص بين اللبنانيين حول أوضاعهم ومعنى انخراط الفلسطينيين بمنظماتهم المسلحة في حياتهم اليومية، واندفاعها لجعل أراضيهم نقطة انطلاق في حرب مفتوحة لتحرير فلسطين في زمن الانكفاء العربي الكامل عن هذه المهمة، وسعي كل الدول المحيطة إلى تدجين السلاح الفلسطيني بل وتصديره إلى لبنان الذي سيصبح مجرد ساحة مستباحة.

ربما لو تحمّل زعماء تلك الأيام المسؤولية واهتموا بمستقبل بلادهم لما كنا وصلنا بعد نصف القرن هذا إلى تكرار ما حصل على الكوع نفسه قبل أيام، ولما كان على اللبنانيين استعادة الصور والخطابات وربما توقع الآلام والاثمان نفسها.

قبل خمسين عاماً انخرط القادة في حسابات الربح والخسارة الشخصية والفئوية. قادة مسلمون اعتبروا الفلسطينيين «جيش المسلمين» وقادة مسيحيون تناسوا أنّ المسلمين شركاء في الوطن، وعلى الطرفين انهالت عروض المستفيدين من تفجير سويسرا الشرق تمهيداً للحل النهائي: إنهاء منظمة التحرير الفلسطينية على إنقاذ ما تبقى من لبنان.

حادث الكحالة الأخير يفرض على من يعتبرون أنفسهم قادة مسؤولين، وبعضهم لا يزال في موقعه منذ الحادث الأول، وبعضهم الآخر أورث أولاده القيادة والرؤية، الانصراف إلى نقاش جدي في العمق حول التراكمات التي أدت إلى ما جرى، من موقع تحمّل المسؤولية ليس عن مستفيدين في طائفة أو تابعين لمموّل أجنبي، وإنما عن مستقبل بلد يفترض أن يكون آمناً ومستقراً ومزدهراً تنظم أموره سلطة شرعية واحدة منتخبة ومؤطرة في مؤسسات. على السادة الستة أو السبعة من قادة الطوائف والمذاهب أن يلتقوا منعاً لتكرار افتراق فجّر البلد قبل عقود، وأن يبحثوا في العمق معنى الدولة ومعنى السلاح الفئوي كائناً ما كانت تسميته. فما حصل يمكن أن يتكرر في أي مكان أو بيئة أخرى، ولا يكفي وصف كتلة «حزب الله» للآخرين بالغباء لإقفال الموضوع.

مسؤولية الستة هي في السعي لمنع الانفجار على قاعدة بناء الدولة والاحتكام إلى القانون، واقرار مبدأ أنّ كل الشعب مسؤول عن حماية وطنه وأن ّالواجبات القومية تحددها الدولة الشرعية وليس ميليشيات أو حزب.

درس الكحالة كان يجب الاستفادة منه قبل زمن بعيد، ولم يفت أوان الاستفادة اذا شعر الجالسون في موقع المسؤولية أنّ عليهم أن يفعلوا شيئاً قبل أن يدهمهم العمر وتدهم بلادهم الكارثة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى