رأي

العودة إلى الشام: قراءة في التقارب السعودي – السوري وتشكُّل نظام شرق أوسطي جديد

كتب علي قاسم, في العرب:

في ظل التحول الذي تقوده رؤية 2030 باتت السعودية أكثر براغماتية حيث انتقلت من سياسة خارجية قائمة على الأيديولوجيا إلى أخرى تركز على المصالح الاقتصادية والأمن القومي.

بعد أكثر من عقد من القطيعة والصراع الدامي، تعود المملكة العربية السعودية لتفتح مسارًا جديدًا نحو دمشق، ليس من موقع المنتصر أو المهزوم، بل من موقع الفاعل الإستراتيجي الذي يقرأ تحولات الإقليم ويعيد تشكيل دوره في شرق أوسط يتغير بسرعة. هذه العودة لا يمكن اختزالها في مجرد تطبيع دبلوماسي، بل هي فصل جديد في قصة إعادة تعريف الهوية السعودية ودورها في المنطقة.

الشرخ الذي ظهر بين الرياض ودمشق في عام 2011 لم يكن وليد لحظة، بل هو امتداد لإرث طويل من التنافس والتداخل. فعلى الرغم من وحدة الدم واللغة، شهدت شبه الجزيرة العربية والشام صراعًا على الزعامة، تجلى بوضوح في مرحلة المد القومي العلماني خلال خمسينات القرن الماضي وستيناته، حين تبنت دمشق خطابًا ثوريًا معاديًا للرأسمالية، بينما تمسكت الرياض بنموذج الإسلام المحافظ والملكية التقليدية. كان الخلاف أيديولوجيًا في ظاهره، لكنه جيوسياسي في جوهره، واستمر حتى في لحظات التعاون، كما حدث خلال حرب الخليج عام 1991، حين برزت السعودية كقوة ضامنة للأمن الإقليمي، لكن بقي عنصر الريبة قائمًا، وكشفت تلك الحرب عن هويات متصارعة داخل الإقليم.

ومع اندلاع الربيع العربي بلغ التباين ذروته، إذ رأت الرياض في سقوط نظام الأسد ضرورة لوقف تمدد النفوذ الإيراني، فدعمت فصائل المعارضة، بينما اعتبر النظام السوري ذلك محاولة سعودية – قطرية لقلب موازين القوى. تحولت سوريا إلى ساحة صراع بالوكالة، حيث التقت خطوط التمزق الإقليمي والدولي، وتداخلت الحسابات الأمنية مع الطموحات الجيوسياسية. لكن مع مرور الوقت، بدأت السعودية تعيد تقييم موقفها، مدفوعة بجملة من التحولات التي فرضت نفسها على المشهد.

◄ مع تليين الخطاب السوري بدأت الرياض، التي لطالما وضعت أمنها الإقليمي في صدارة أولوياتها، تُقَيّم موقفها ورأت في هذا الانفتاح فرصة لإعادة التوازن وقطع الطريق على مشاريع الهيمنة

فشل سياسة العزل، التي لم تؤد إلى إسقاط النظام السوري بل دفعته إلى الارتماء الكامل في أحضان طهران وموسكو، جعل الاستمرار في تلك السياسة تهديدًا مباشرًا للأمن السعودي، خاصة مع تمدد النفوذ الإيراني على حدود الأردن والعراق. وفي ظل التحول الذي تقوده رؤية 2030، باتت السعودية أكثر براغماتية، حيث انتقلت من سياسة خارجية قائمة على الأيديولوجيا إلى أخرى تركز على المصالح الاقتصادية والأمن القومي. المملكة التي تطمح لأن تكون مركزًا لوجستيًا وتجاريًا عالميًا لا يمكنها أن تتحمل فوضى دائمة على حدودها، فكان الاستقرار الإقليمي شرطًا مسبقًا للنهضة الاقتصادية.

جاء تعيين أحمد الشرع رئيسًا انتقاليًا لسوريا في يناير 2025 ليشكل نقطة تحول في السياسة الخارجية السورية، ويفتح الباب أمام تقارب جديد مع الرياض. الشرع، المعروف سابقًا بلقب أبومحمد الجولاني، لم يعد ذلك القائد العسكري لفصيل جهادي، بل بات رجل دولة يسعى إلى إعادة بناء سوريا، مستفيدًا من شبكة علاقات محلية وإقليمية، ومن خطاب سياسي أكثر واقعية. بدأ يرسل إشارات واضحة إلى السعودية مفادها أن سوريا الجديدة لا تنوي أن تكون ساحة نفوذ لأي طرف خارجي، وأنها مستعدة لتقديم ضمانات أمنية وسياسية تضمن استقرار المنطقة وتحييد التهديدات العابرة للحدود. هذه الرسائل، التي وصلت عبر وساطات عربية وقنوات غير رسمية، وجدت صدى في دوائر القرار السعودي، خاصة بعد تعهد الشرع بعدم السماح بعودة التنظيمات المتطرفة أو النفوذ الإيراني إلى مفاصل الدولة.

ومع تليين الخطاب السوري وظهور مؤشرات على استعداد دمشق للانخراط في مسار سياسي شامل بدأت الرياض، التي لطالما وضعت أمنها الإقليمي في صدارة أولوياتها، تُقَيّم موقفها بعد أن رأت في هذا الانفتاح فرصة لإعادة التوازن وقطع الطريق على مشاريع الهيمنة، ما يجعل من الشرع فاعلًا سياسيًا جديدًا في معادلة الشرق الأوسط، لا مجرد وريث لفصيل مسلح.

ترافق ذلك مع تراجع نسبي للدور الأميركي في المنطقة، وانكفاء واشنطن نحو أولوياتها الإستراتيجية في مواجهة الصين وروسيا، ليمنح السعودية هامشًا أكبر للتحرك، ويدفعها إلى تحمل مسؤولية أمنها الإقليمي بشكل مباشر، سواء عبر اتفاقيات مثل الوساطة الصينية مع إيران، أو من خلال إعادة بناء العلاقات مع سوريا. كما أن دولًا عربية أخرى، مثل الإمارات ومصر والأردن، كانت قد بدأت منذ سنوات بفتح قنوات تواصل مع دمشق، ما خلق حافزًا تنافسيًا للسعودية كي لا تُترك خارج المعادلة السورية الجديدة، وتفوت فرصة المشاركة في إعادة الإعمار والاستثمار المستقبلي.

التقارب الحالي لا يعني عودة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل 2011، فالعالم تغير، والسعودية تغيرت، وسوريا تغيرت. النموذج الجديد للعلاقات لا يقوم على الدعم الريعي، بل على شراكة تنموية قائمة على المصالح المتبادلة.

◄ فشل سياسة العزل، التي لم تؤد إلى إسقاط النظام السوري بل دفعته إلى الارتماء الكامل في أحضان طهران وموسكو، جعل الاستمرار في تلك السياسة تهديدًا مباشرًا للأمن السعودي، خاصة مع تمدد النفوذ الإيراني على حدود الأردن والعراق

بعد سنوات من القطيعة والصراع جاء الإعلان عن حزمة استثمارات سعودية ضخمة ليؤكد أن التقارب بين الرياض ودمشق لم يعد مجرد مناورة دبلوماسية، بل أصبح واقعًا اقتصاديّا وإستراتيجيّا يعيد رسم خرائط النفوذ والشراكة في الشرق الأوسط. في هذا السياق جاءت زيارة الوفد السعودي إلى دمشق في يوليو 2025 لتفتح الباب أمام استثمارات تتجاوز قيمتها ستة مليارات دولار، موزعة على قطاعات حيوية تمس جوهر إعادة الإعمار والتنمية. لم تكن هذه الزيارة مجرد بروتوكول، بل حملت معها توقيع العشرات من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، وشهدت حضور أكثر من 150 شخصية من القطاعين الحكومي والخاص، في مشهد يعكس جدية المملكة في الدخول إلى السوق السورية كشريك لا كمراقب. المشاريع التي تم الإعلان عنها، من برج الجوهرة في قلب دمشق إلى مصانع الإسمنت في عدرا الصناعية، ليست فقط رموزًا عمرانية، بل مؤشرات على رغبة السعودية في أن تكون جزءًا من إعادة بناء سوريا، اقتصاديّا ومؤسساتيّا.

اللافت في هذا التحول أن المملكة لم تكتف بالاستثمار، بل حرصت على تأسيس مجلس أعمال سعودي – سوري، برئاسة رجل الأعمال محمد أبونيان، ليكون منصة تنسيقية تضمن استمرارية التعاون وتجاوز العقبات البيروقراطية. كما تم توقيع اتفاقية لحماية الاستثمارات، في خطوة تعكس حرص الرياض على توفير بيئة قانونية وتشريعية آمنة لمستثمريها، وتؤكد أن هذه الشراكة ليست عابرة، بل جزء من رؤية إستراتيجية أوسع. هذه الرؤية، التي تتماشى مع أهداف “رؤية 2030”، ترى في سوريا فرصة لا تهديدًا، وفي الاستقرار الإقليمي شرطًا لا ترفًا، وفي الشراكة الاقتصادية وسيلة لتعزيز النفوذ الإيجابي بدلًا من الانخراط في صراعات لا تنتهي.

الرسائل التي حملتها هذه الاستثمارات تتجاوز الأرقام والمشاريع، فهي تعكس رغبة السعودية في إعادة تعريف علاقتها بسوريا، ليس من موقع الخصومة، بل من موقع الفاعل الإقليمي الذي يدرك أن مستقبل المنطقة لا يُبنى بالقطيعة، بل بالتفاهم والمصالح المشتركة.

وتسعى الرياض إلى بناء شبكة من العلاقات الاقتصادية والأمنية مع جميع اللاعبين الإقليميين، لتكوين كتلة عربية أكثر تماسكًا وقدرة على مواجهة التحديات المشتركة، من الإرهاب إلى الأمن الغذائي والتهديدات السيبرانية، وهو ما يفكك منطق المحاور المتصارعة ويفتح الباب لتحالفات مرنة قائمة على قضايا محددة.

عودة السعودية إلى سوريا هي مؤشّر على نضج إستراتيجي عميق، واعتراف بأن القوة لا تكمن فقط في القدرة على خوض الصراعات، بل في القدرة على صنع السلام وإدارة المصالح في بيئة معقدة. وهي أيضًا تأكيد على أن المركزية السعودية في العالم العربي والإسلامي لا تُبنى بالقطيعة، بل بالجسور. ومع ذلك، فإن ما تحقق حتى الآن لا يُعد ضمانًا للنجاح، فالتحديات لا تزال هائلة، من عمق النفوذ الإيراني في سوريا، إلى مخاوف المجتمع الدولي بشأن المساءلة، إلى تعقيدات ملف إعادة الإعمار ومخاطر التطبيع مع نظام لا يزال يراه كثيرون قمعيًا. لكنها، رغم ذلك، خطوة ضرورية، فالمملكة التي تتطلع إلى قيادة منطقة مستقرة ومزدهرة تدرك أن مستقبلها لا ينفصل عن مستقبل جاراتها، وأن قصة العلاقة بين أرض الحرمين وأرض الشام، التي بدأت برحلة تجارة وقوافل، تدخل اليوم فصلًا جديدًا تحكمه مصالح متشابكة ورؤية جديدة لاستقرار لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى