
بقلم ديما حسين صلح:
لا يخوض حزب الله الانتخابات كغيره من الأحزاب، فبالنسبة له صناديق الاقتراع ليست فقط استحقاقًا ديمقراطيًا، بل ساحة إضافية من ساحات المقاومة.
من هنا، تتداخل أدواته السياسية مع أدواته النفسية في إنتاج خطابٍ مشحون بالعاطفة، كثيف بالرموز، ومحكوم بمنطق الانتماء، لا بمنطق الاختيار.
أول أدوات هذا الخطاب هو الوفاء لسيد الشهداء، وهو توصيف يطلقه الحزب على أمينه العام السيد حسن نصرالله، ضمن منظومة تقديس غير مباشرة.
فكل تصويت للائحة الحزب يصبح في هذا السياق “بيعة سياسية” للقيادة، لا مجرد قرارٍ مدني. وهنا، لا يُترك للمواطن هامش حرية، بل يُمنَح شعورًا بأن خروجه عن التصويت للحزب هو خيانة رمزية لمن ضحّى وقاد.
ثانيًا، يتقن الحزب لعبة استحضار الذاكرة الشيعية الجمعية، وتحديدًا آلامها المتراكمة، من التهميش التاريخي، إلى اجتياح الضاحية، إلى اغتيال القادة، إلى الحرب السورية.
هذه الذاكرة يتم ربطها دائمًا بخطر داهم، ومتخيّل أحيانًا، اسمه المشروع الأمريكي، وأحيانًا السعودي، وأحيانًا الإسرائيلي، ليصبح الناخب أمام حالة تعبئة وجودية، لا يصوّت من أجل تحسين خدمات، بل من أجل البقاء.
وثالثًا، يُستعمل دم الشهداء كأداة ضغط أخلاقية، فصوتك ليس ملكك، بل هو أمانة في أعناق من قاتلوا واستُشهدوا.
هذه الصيغة تُحوّل كل اختلافٍ سياسي إلى نشازٍ أخلاقي، وتحوّل المعركة الانتخابية إلى اختبار ولاء، لا إلى ساحة تنافس أفكار.
لكن خلف هذا كله، هناك ما هو أعمق: خوف الحزب من تفكّك سرديّته الداخلية، فالمجتمع الشيعي لم يعُد كتلة واحدة مطيعة، ولا عاطفة واحدة جياشة.
هناك جيل جديد لا تكفيه الرموز، ولا يُقنعه خطاب المظلومية؛ يطالب بخدمات، بمحاسبة، بخياراتٍ مختلفة.
وإذ يُكرّس الحزب خطابه على أن المعركة هي بيننا وبين العالم، فإنه يُغفِل – أو يُغفِل عمدًا – أن المعركة الحقيقية قد تكون بينه وبين ناسه، بين من يريد أن يبقى في الحالة، ومن يريد أن يخرج إلى فضاء السياسة الحرّة، حيث لا سلاح فوق الرأس، ولا شهداء يُمنّ بهم، ولا وجع يُستعمل كخزّانٍ انتخابي.
في النهاية، حين تتحول العاطفة السياسية إلى أداة تسلّط، وحين يُزرع في الناخب شعورٌ بالذنب إن فكّر، وبالخيانة إن تردّد، يصبح الصندوق الانتخابي صناديق سوداء، فيها أسماء مرشحين، لكن لا مكان فيها للإرادة.
من هنا، لا بدّ من تذكير أنفسنا والناس بأن معركة البلديات، وفي قلبها بعلبك، ليست امتدادًا لمعركة المحاور، بل هي معركة إنمائية بامتياز.
إنها ساحة اختبارٍ للشفافية، وللعمل المؤسساتي، ولقدرة أبناء المدينة على بناء نموذجٍ يُشبههم، لا أن يُفرض عليهم من فوق.
إن تضخيم الأبعاد الوجودية والرمزية للانتخابات، وتلبيسها أثواب الشهادة والمقاومة، ليس فقط تشويشًا على الوعي، بل محاولة للهروب من الاستحقاق الفعلي: من سيجمع النفايات؟ من سيُضيء الشوارع؟ من سيُعيد الحياة إلى المدينة التي صارت تُختصر بصورتها الأمنية؟
في لحظةٍ كهذه، لا بدّ من إعادة البوصلة إلى مكانها الحقيقي: الناس هم الهدف، والإنماء هو المعيار، والكرامة لا تُستعاد بالخطابات، بل بالمياه النظيفة، والمدارس الجيدة، والوظائف الكريمة.
بعلبك، المدينة التي يعلو فيها صوت الحجر والدم والتاريخ، تستحق أن يعلو فيها أيضًا صوت الحياة.
فصوت الناخب، هذه المرّة، لا يجب أن يكون بيعة، بل فرصة لتحرير المدينة من خطاب الترهيب، نحو مستقبلٍ تُبنى فيه السياسة على الأرض، لا على الدماء.