الحرب تضاعف جرائم غسل الأموال في اليمن
أدت الحرب الدائرة في اليمن منذ أكثر من تسعة أعوام إلى تفشي جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وعمليات تدوير الأموال غير المشروعة، وتعدد مصادرها، نتيجة الانقسام السياسي والاقتصادي والمصرفي.
وكان تقرير صادر عن مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي عام 2022 قد أفاد بأن حجم الأموال المغسولة خلال فترة الحرب في اليمن تتجاوز 30 مليار دولار، وهو رقم يعادل موازنة اليمن لثلاثة أعوام في الظروف الطبيعية”.
وحسب التقرير فهناك “طرق عدة لممارسة غسل الأموال عبر مصادرة أموال وأصول الأفراد والكيانات المعارضين، وتلقي التمويل من مصادر خارج الحدود، والانخراط في تجارة السوق السوداء، وفرض رسوم غير قانونية على استيراد الوقود وعلى أنشطة أخرى، والتهريب، والتزوير، والاتجار بالمخدرات والمؤثرات العقلية والأوراق النقدية والتحف والآثار، وتحصيل الزكاة والإيرادات غير الضريبية، وتحصيل الإيرادات والرسوم الجمركية”.
في السياق اتّهم مراقبو العقوبات بالأمم المتحدة، في عام 2019، حكومة اليمن بغسل الأموال والفساد “مما أثر سلباً في وصول إمدادات غذائية كافية”، وقالوا إن الحوثيين استغلوا ما لا يقل عن 1.8 مليار دولار من إيرادات الدولة في 2019 في تمويل المجهود الحربي.
مخالفات البنك المركزي
وقال المراقبون إن السعودية أودعت ملياري دولار لدى البنك المركزي اليمني في يناير/ كانون الثاني 2018 في إطار برنامج للتنمية وإعادة الإعمار. وكان المقصود أن يمول هذا المبلغ خطاً ائتمانياً لشراء سلع مثل الأرز والسكر والحليب والدقيق لتعزيز الأمن الغذائي، ومن أجل استقرار أسعار تلك السلع محلياً.
لكن تحقيق الأمم المتحدة اكتشف أن البنك المركزي في اليمن خالف قواعد تغيير العملات وتلاعب في سوق العملة “وغسل جزءاً كبيراً من الوديعة السعودية بمخطط معقد لغسل الأموال” أدر على تجار مكاسب بلغت قيمتها نحو 423 مليون دولار.
وقال المراقبون إنهم يعتبرون ذلك “عملاً من أعمال غسل الأموال والفساد ارتكبته مؤسسات حكومية، وهي في هذه الحالة البنك المركزي اليمني، وحكومة اليمن، بالتواطؤ مع رجال أعمال وشخصيات سياسية في مواقع مهمة لصالح مجموعة مختارة من التجار ورجال الأعمال تتمتع بامتيازات خاصة”.
كما تتهم الحكومة اليمنية، وفق تقارير دولية، بالفساد وغسل الأموال بطريقة منظمة، وقد اتهم تقرير لجنة الخبراء الحكومة اليمنية وبنكها المركزي ومجموعة من التجار المختارين بالفساد وغسل الأموال عند استعمال الوديعة السعودية، وبحسب التقرير الصادر عام 2021 فقد نفت حكومة اليمن خطة لتحويل أموال من الوديعة السعودية”.
نهب الحوثيين الأموال
اتهم فريق الخبراء الدوليين، التابع للجنة العقوبات الدولية المعنية باليمن، الحوثيين بـ”السيطرة على معظم الاقتصاد الوطني”، وتقدر الأموال التي حصلت عليها الجماعة خلال عام 2019 فقط عن طريق القنوات والآليات التي أنشأوها بـ1.039 مليار ريال، أي ما يعادل 4 ملايين دولار، كما استولوا على الإيرادات غير الضريبية لشركات الاتصالات، والتي قدرت بـ265 مليون دولار خلال الفترة من ديسمبر/ كانون الثاني 2016 حتى أغسطس/ آب 2017.
وفي صنعاء الواقعة تحت سيطرتهم، عمد الحوثيون لنهب الأموال العامة والخاصة بالأفراد، عبر عمليات منظمة، من خلال شبكة واسعة، تشمل الجهاز القضائي، والبنك المركزي، والأمن والمخابرات، وجهات أخرى تنفذ أوامر “الحارس القضائي” الذي جرى تعيينه من قبل الجماعة، وتستعمل هذه الأموال في تمويل العمليات الحربية، وإنشاء شركات تجارية خاصة، أو تهريبها إلى خارج البلاد.
كما تقوم جماعة الحوثيين بمصادرة أموال الخصوم والاستيلاء عليها، وأنشأت في سبيل ذلك ما يسمى بالحارس القضائي، والذي عينت فيه القيادي في الجماعة والمدرج اسمه في قوائم العقوبات الأميركية، صالح مسفر الشاعر، حيث يتزعم شبكة تتألف من المحكمة الجزائية المختصة، ومكتب الأمن القومي، والبنك المركزي في صنعاء، وبعض المصارف، ومؤسسات أخرى، تقوم بالاعتقال غير القانوني لمديري الشركات والمصارف، بتهمة العمالة.
وأصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة أحكاماً بمصادرة جميع الأصول داخل البلاد وخارجها لعدد 75 قائداً عسكرياً، و35 برلمانيا، وأكثر من 100 من السياسيين.
كما أن جماعة الحوثيين، وفقاً لمبادرة استعادة Regain Yemen – تستخدم القطاع المصرفي والبنوك الواقعة في مناطق سيطرتها من أجل عمليات غسل الأموال، وتمرير الصفقات المشبوهة، ويشار إلى أن قرار تعويم المشتقات النفطية الذي اتخذه الحوثيون في 2015 أدى إلى إنشاء أكثر من 30 شركة تعمل في الخدمات النفطية، وشركات الصرافة التي تستخدم في إنجاز العمليات المالية، إضافة إلى شركات وجاهة تعمل على غسل الأموال وتمويل الحرب.
ويكشف تقرير صادر عن المبادرة، مطلع العام الجاري، عن تورط زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي والمتحدث باسم الجماعة محمد عبد السلام في غسل الأموال وتمويل العمليات الإرهابية لمليشيات أخرى في المنطقة.
ويقول التقرير الذي حمل عنوان “الصرافة أداة حرب”، أن تورط الحوثي وعبد السلام، جاء من خلال تأسيس عدد من شركات الصرافة للقيام بهذه المهمة وربطها مالياً مع كيانات أخرى في المنطقة، ضمن شبكة موسعة للجريمة المنظمة، واستنزاف العملات الأجنبية، لتغطية شراء الأسلحة والتحويلات لمليشيات أخرى.
ويشير التقرير إلى عدد من الانتهاكات التي مارستها المليشيا ضد القطاع المصرفي في اليمن، والتي شملت الاعتقالات، والاقتحامات، والمداهمات، ومصادرة ونهب الأموال، وممارسة العديد من الضغوط، بهدف توظيف شركات الصرافة، لتنفيذ أجندتها، ودفع تلك الشركات للإفلاس، وإحلال شركات أخرى بديلة عنها.
وكشفت منصة تعقب الجرائم المنظمة وغسل الأموال في اليمن (PTOC) عن مخطط خطير لزعيم جماعة الحوثي، عبد الملك الحوثي، يقضي بإنشاء شبكة مالية سرية لغسل الأموال وتمويل أنشطته.
وتعمل هذه الشبكة، التي يديرها ما يسمى بجهاز الأمن والمخابرات الحوثي، تحت إشراف مباشر من مكتب زعيم الجماعة.
وكان البنك المركزي اليمني، ومقره في عدن، قد اتهم في تقرير له في مايو/ أيار الماضي الجماعة الحوثية بتدمير القطاع المصرفي والمالي، كاشفاً عن الإجراءات التعسفية وغير القانونية التي قامت بها الجماعة.
وقال البنك المركزي إن الجماعة الحوثية قامت بين 2016 – 2018 بالاستحواذ على جزء كبير من المبالغ النقدية للبنوك، مستغلة وجود أغلب المراكز الرئيسية للبنوك في صنعاء، وإجبارها على سحب السيولة النقدية المتوفرة في خزائن فروعها، ونقلها إلى مراكزها الرئيسية، ثم توريدها لحسابات الجماعة واستخدامها بوصفها أحد مصادر دعم مجهودها الحربي، دون اكتراث لتأثير ذلك على نشاط البنوك، وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها، وفقدان ثقة العملاء بالقطاع المصرفي.
تفشي الفساد
أستاذ علم الاقتصاد بجامعة تعز، محمد قحطان، قال لـ”العربي الجديد” إن “الانفلات الناتج عن انقلاب الحوثيين وما نتج عنه من وجود سلطتين بتشكيلات مسلحة أدى إلى تفشي ظواهر الفساد، وأصبحت الموارد العامة للدولة، بالإضافة إلى طرق مختلفة، من نهب للممتلكات العامة والخاصة، وفرض الإتاوات بالقوة، والمتاجرة بالخدمات العامة كالكهرباء والمياه والاتصالات، وشركات توزيع المشتقات النفطية والغاز وجميع الوحدات الاقتصادية التابعة للدولة، وحتى المساعدات الإنسانية المتدفقة من الخارج، كلها صارت عرضة للنهب وتكوين ثروات خاصة كبيرة بصورة سريعة”.
وأضاف قحطان أنه برزت شخصيات جديدة في مجال المال والأعمال تسعى لتضييق الخناق على المستثمرين التقليديين وإضعافهم أو طردهم خارج السوق، وتحل محلهم لتضاعف من مكاسبها والثروات المستولى عليها، ولكي تحمي هذه الثروات التي جرت جبايتها بطرق غير شرعية، فقد لجأت إلى طريقة ما يسمى بغسل الأموال، من خلال شراء الأراضي والعقارات، وبناء منشآت جديدة خاصة، وفي الغالب بأسماء مستعارة، وأحياناً بأسماء شخصيات متنفذة.
وتابع: “مع التراكم الكبير للثروة جرى نقل بعض تلك الاستثمارات للخارج، الأمر الذي أثر كثيراً بالوضع الاقتصادي اليمني، وأدى إلى انهيار متسارع للقيمة الشرائية للريال اليمني، وشح وندرة العملات الأجنبية بفعل تسريبها للخارج، وبالتالي مضاعفة مظاهر البؤس والحرمان لمواطني الدولة اليمنية، وتراجع حاد للناتج المحلي الإجمالي، وانهيار اقتصادي وإنساني”.
وأشار قحطان إلى أن مظاهر غسل الأموال برزت في الإثراء السريع لبعض قيادات الكيانات المسلحة والمتنفذين، وذلك بصور شراء الأراضي والعقارات وإنشاء العمارات والمنازل الجديدة، وبروز استثمارات واسعة لليمنيين في دول أخرى، تصنف بأنها نتاج ظاهرة غسل الأموال القادمة من اليمن.
ويرى قحطان أنه مع استمرار حالة الحرب القائمة وآثارها البليغة على الأرض اليمنية وثرواتها ومواردها الاقتصادية المعرضة للنهب والتبديد والاستنزاف بصور مختلفة، تتعمق مشكلة انهيار الدولة اليمنية وصعوبة إعادة بنائها.
الحرب تنعش غسل الأموال
الصحافي الاقتصادي وفيق صالح، قال لـ”العربي الجديد” إن “الحرب ساهمت بزيادة نشاط غسل الأموال، حيث وفر الصراع والفراغ المؤسسي في أجهزة الدولة الرقابية، وضعف السيطرة الحكومية على الأرض، في تفشي العديد من مظاهر غسل الأموال، علاوة على أن التقويض الممنهج من قبل الحوثيين لمؤسسات الدولة، ونهب الموارد العامة، قد ساهم إلى حد كبير في انتشار هذه الظاهرة، مقابل تراجع أنشطة الاقتصاد الرسمي”.
وأضاف الصحافي الاقتصادي أن “مظاهر غسل الأموال استخدمت أدوات مختلفة مثل شركات الصرافة التي توسعت بدون تراخيص رسمية، وكذلك عبر انتعاش سوق العقارات غير المنظم الذي استوعب الجزء الأكبر من حجم الأموال المنهوبة خلال سنوات الحرب، وتجارة المشتقات النفطية، وتهريب الأموال إلى الخارج”.
وأوضح أن جوانب مكافحة غسل الأموال تتركز أولاً على تعزيز حضور مؤسسات الدولة، ورفع كفاءة الأداء الوظيفي لهذه المؤسسات، وهذا لن يكون إلا عبر إنهاء حالة “الملشنة” التي تشهدها البلاد، خصوصاً في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، ولا بد من تفعيل جميع الأجهزة الرقابية في الدولة، مثل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وهيئة مكافحة الفساد.