الانكفاء الألمانى وخوف السياسة من اتهام العداء للسامية
كتب عمرو حمزاوي, في “الشروق” :
كلما قدمت برلين وحاولت استطلاع طبيعة القضايا المجتمعية والسياسية التى تشغل بال الناس، كلما شعرت بمدى انكفاء هذه الدولة الأوروبية على نفسها وغلبة الهموم الداخلية على كل ما عداها. اليوم، ولأن موسم الانتخابات على مستوى الحكومة الاتحادية وفى عدة ولايات ألمانية يقترب، تحفل شوارع العاصمة برلين والمدن الأخرى بلافتات لمرشحات ومرشحين من أحزاب مختلفة وبشعارات جميعها يتناول الشأن الاقتصادى والاجتماعى.
لن تشعر فى ألمانيا أن الحرب الروسية-الأوكرانية ولا الحرب فى غزة وتوترات الشرق الأوسط تكتسب أهمية حقيقية بين الناس، بل يذهب جل الاهتمام العام إلى إضرابات النقابات العمالية والمهنية المتكررة وأسعار الطاقة والخدمات ومعدلات البطالة. أما فى السياسة، فيدور التنازع فى المقام الأول حول صعود اليمين المتطرف وتداعياته.
فألمانيا ستشهد فى الفترة القصيرة القادمة انتخابات تشريعية على مستوى عدة ولايات فى الشرق والغرب الألمانى وانتخابات للبرلمان الأوروبى وانتخابات للبرلمان الفيدرالى (البوندستاج). وستحدد نتائج هذه الانتخابات مجتمعة وجهة هذه الدولة الكبرى إن فى الداخل بقضاياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية الملتهبة أو فى الخارج الذى لا يشغل بال الناس وإن استمرت به الحرب الروسية-الأوكرانية فى الجوار الجغرافى لألمانيا وتواصلت به حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة التى تتعاطى معها الحكومة الألمانية بانحياز كامل لتل أبيب.
• • •
فى الداخل، وهو داخل لم يعد ممكنا إنكار صعوبة قضاياه، ستحسم انتخابات ٢٠٢٤ و٢٠٢٥، من جهة، سؤال من سيقود ألمانيا سياسيًا وإذا ما كان الحزب الاشتراكى الديمقراطى متحالفًا مع الخضر وأحزاب أخرى فى اليسار واليمين سيواصل الحكم على المستوى الفيدرالى والحضور بقوة على مستوى حكومات الولايات وفى البرلمان الأوروبى أو إذا ما كان الحزب المسيحى الديمقراطى متحالفًا مع شريكه الحزب المسيحى الاجتماعى ومع الحزب الليبرالى الحزب الديمقراطى الحر (وربما مع حزب الخضر وفقًا لنتائج الانتخابات) سيعود إلى الحكم على المستوى الفيدرالى ويواصل انتصارات السنوات الماضية على مستوى الولايات وعلى المستوى الأوروبى.
الحقيقة أن قضايا الداخل الملتهبة، وهى تتنوع بين تراجع معدلات النمو الاقتصادى لتصبح من بين أسوأ معدلات النمو فى القارة الأوروبية وأزمات معيشية كالعجز فى الوحدات السكنية المعروضة فى السوق مقارنة بالطلب وأزمات تراجع مستويات الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة وتحديات التعامل مع العدد الكبير من اللاجئين واللاجئات ومن يطلب اللجوء والضغوط التى يضعونها على الخدمات التعليمية والصحية ونظم الرعاية الاجتماعية ومؤسسات الاندماج المجتمعى، تزيد من حدة التنافس الانتخابى بين يسار الوسط الذى يمثله الحزب الاشتراكى الديمقراطى والخضر وبين يمين الوسط الذى يعبر عنه المسيحيون الديمقراطيون ومعهم الحزب الديمقراطى الحر الذى يظل، وإن شارك فى الائتلاف الحكومى الحالى مع الاشتراكيين والخضر، أقرب إلى يمين الوسط.
يتبنى يسار الوسط سياسات اقتصادية واجتماعية ومالية أولوياتها إدارة انتقال ناجح إلى الاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة وتجديد الاستثمارات الحكومية فى المرافق الكبرى وتوسيع شبكات الرعاية الاجتماعية وتسهيل اندماج كل من الأشخاص اللاجئين وطالبى اللجوء الشرعيين، وتتعثر بعض سياساته بسبب الخلافات الكثيرة داخل الائتلاف الحاكم الذى يقوده المستشار أولاف شولتس ويندر به صناعة التوافق بين الخضر وبين الديمقراطيين الأحرار، ويفقد الكثير من التأييد الشعبى، بسبب تراجع النمو الاقتصادى واستمرار الأزمات الاجتماعية.
أما يمين الوسط، فيريد العودة إلى الحكم الذى غاب عنه مع رحيل المستشارة السابقة أنجيلا ميركل ويطرح سياسات اقتصادية تجتذب القطاع الخاص بمقترحات تخفيض الضرائب وتخفيف الاشتراطات الحكومية الكثيرة المفروضة على الأسواق، ويتبنى سياسات اجتماعية تريد تقليص أعداد اللاجئين وطالبى اللجوء وتجتذب من ثم دوائر الناخبات والناخبين القريبة من اليمين العنصرى والشعبوى. خلال السنوات الماضية، نجح المسيحيون الديمقراطيون فى تحقيق نتائج جيدة فى صناديق الاقتراع فى عدة ولايات ألمانية موظفين خطابهم المتشدد تجاه اللاجئين ومستغلين تعثر الائتلاف الحاكم وخلافاته الكثيرة.
ستحسم الانتخابات المقبلة حظوظ يسار الوسط ويمين الوسط، وتحدد هوية الطرف الذى سيقود ألمانيا ونوعية السياسات الاقتصادية والاجتماعية التى سنطبق فى الداخل.
• • •
فى الداخل أيضًا، ستحدد انتخابات العام الحالى والقادم مسألة وزن ودور اليمين المتطرف فى السياسة الألمانية. فقد شهدت الفترة الماضية صعود حزب البديل لألمانيا، ممثل اليمين العنصرى، فى صناديق الاقتراع وفى استطلاعات الرأى العام إلى الحد الذى صار معه الحزب حاضرا داخل العدد الأكبر من برلمانات الولايات فى الشرق وأيضًا فى الغرب الألمانى وأصبحت معه نسب تأييده بين صفوف الناخبات والناخبين تقترب من 25 بالمائة.
ليس هذا فقط، بل، وبعد أن خرج الآلاف فى تظاهرات شعبية عمت المدن الكبيرة دفاعا عن الديمقراطية ورفضا لليمين العنصرى على خلفية تقارير صحفية وأمنية عن تآمر بعض اليمينيين المتطرفين على الدولة ودستورها الديمقراطى، لم تتراجع نسب التأييد الشعبى لحزب البديل لألمانيا. على العكس تمامًا، تدلل استطلاعات الرأى العام الراهنة على استعداد مزيد من الناخبات والناخبين للتصويت لمصلحة الحزب إلى الحد الذى قد يقترب معه من تشكيل حكومة أو أكثر فى الولايات الشرقية.
يهدد صعود اليمين العنصرى والشعبوى استقرار السياسة الداخلية فى ألمانيا التى تظل، وإن تفاوتت بها رؤى يسار ويمين الوسط بشأن قضايا الهجرة واللاجئين، ملتزمة بالمبادئ الديمقراطية وسيادة القانون وبعيدة عن تطبيق سياسات الباب المغلق التى تتبعها حكومات اليمين المتطرف فى بلدان أوروبية أخرى. يهدد صعود حزب البديل لألمانيا أيضًا الاتحاد الأوروبى الذى تقوده القاطرة الألمانية منذ عقود ويتوافق على تقويته اقتصاديا وسياسيا يسار ويمين الوسط، ويريد اليمين العنصرى بوطنيته المتطرفة التخلص منه والتحرر من قيوده واشتراطاته الكثيرة التى يتناسى العنصريون والشعبويون كونها ضمنت رفاهية ورخاء وأمن ألمانيا لعقود طويلة.
المقلق فى الأمر هو القبول الشعبى الواسع بين دوائر الناخبات والناخبين المؤيدة لحزب البديل لألمانيا للطرح الهدام بشأن الاتحاد الأوروبى واستجابتهم هنا للمقولات الشعبوية (الألمان ينفقون على فقراء أوروبا وعاطليها) مثلما يؤيدون المقولات العنصرية فيما خص الأشخاص المهاجرين واللاجئين (الأجانب يخطفون أماكن عمل الألمان ويستغلون نظم الرعاية الاجتماعية التى شيدها المجتمع الألمانى على مدى عقود).
• • •
أما فى الخارج، فستحسم انتخابات ألمانيا وجهة السياسات المطبقة من قبل جمهورية برلين تجاه الجوار الأوروبى ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتجاه المنظومة العالمية ككل. وإذا كان يسار ويمين الوسط لا يختلفان جوهريا فيما خص الموقف من الحرب الروسية-الأوكرانية ودعمها العسكرى والمالى لكييف وفك الارتباط الاقتصادى مع موسكو بالامتناع عن استيراد الطاقة منها وتحمل الكلفة الاقتصادية الباهظة لاستيراد الطاقة من أماكن أبعد إلى أن ترتفع معدلات إنتاج الطاقة المتجددة والنظيفة وغير النووية داخل ألمانيا، إلا أن السياسة الخارجية لبرلين حتمًا ستتأثر إن باستمرار أو بتغير شخوص القائمين عليها فى مبنى المستشارية ومبنى وزارة الخارجية الذى يرفع اليوم مع سيطرة الخضر عليه شعارات السياسة الخارجية النسوية وإن لم يعرف بعد مضمون ذلك فى الممارسة الفعلية.
فى السياسة الخارجية، قد تعنى عودة يمين الوسط ممثلا فى الحزب المسيحى الديمقراطى إلى الحكم بعد انتخابات ٢٠٢٥ توجه ألمانيا نحو تقديم المزيد من الدعم العسكرى النوعى لأوكرانيا ومن ثم المخاطرة بتوترات إضافية مع روسيا ومع الحكومات الأوروبية المتحفظة على مواصلة دعم كييف دون أفق لإنهاء الحرب، وهو الأمر الذى صار يسار الوسط ممثلا فى الحزب الاشتراكى الديمقراطى يتخوف منه.
أما فيما خص إسرائيل والشرق الأوسط، فلا تختلف سياسات يسار ويمين الوسط لجهة التأييد الأحادى لإسرائيل ولحربها الدموية على غزة وللفصل العنصرى والاستيطان وممارسات القمع المطبقة فى الضفة الغربية وللتمييز ضد المواطنات والمواطنين الإسرائيليين من أصول فلسطينية داخل أراضى ١٩٤٨. تصمت الأحزاب الألمانية عن توجيه نقد لحكومة تل أبيب خوفا من أن تواجه الاتهام الجاهز دوما والمعلب سلفا بالعداء للسامية. وحين أعلنت الحكومة الألمانية بالشراكة مع الحكومات الأوروبية الكبيرة كفرنسا وبريطانيا وإيطاليا عن رفض الاجتياح البرى لرفح وضرورة وضع حد لمعاناة المدنيات والمدنيين وللكارثة الإنسانية فى قطاع غزة، تعامل رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو بصلف شديد مع الجانب الأوروبى واستبعد الاستجابة لمطالبه.
وفى المقابل، يعقد البرلمان الألمانى الأسبوع المقبل جلسة علنية لمناقشة فرض عقوبات إضافية على إيران بعد مسيراتها وصواريخها التى أطلقت على إسرائيل. أما الإبادة فى غزة وشبح المجاعة وخطر الاجتياح البرى لرفح، فلا يعنى برلمان برلين لا من قريب أو بعيد.