رأي

عُمان: دبلوماسية هادئة في عالم صاخب

كتب محمد الصالحين الهوني في صحيفة العرب.

رسالة عُمان إلى العالم واضحة: يمكنك أن تكون فاعلاً ومؤثراً دون أن تكون عدواً لأحد وأن تكون قوياً دون أن تكون متغطرساً وأن تبني سلامك وسلام جيرانك في آن واحد.

تحتفل سلطنة عمان الخميس باليوم الوطني المجيد، ذكرى تأسيس الدّولة البوسعيديّة الذي يوافق الـ20 من نوفمبر من كلّ عام، ترتفع الأناشيد في مسقط وصلالة وصحار، ليس فقط ابتهاجاً بذكرى تأسيس الدولة، بل احتفاءً بنموذج فريد أثبت قدرته على الصمود والازدهار في أكثر المناطق الجغرافية اضطراباً في العالم. خلف أضواء الاحتفالات وألوان الزينة، يطل وجه عُمان الحقيقي: وجه الدبلوماسية الهادئة التي حوّلت الحياد من عزلة إلى تأثير، ومن انكفاء إلى قوة ناعمة تفرض احترامها على الجميع.

سياسة “الحياد الإيجابي” أو بالأحرى “الفاعل” التي تتبناها السلطنة ليست خياراً تكتيكياً عابراً، بل هي انعكاس لرؤية عميقة الجذور تشكل جزءاً من الهوية العُمانية. منذ عهد السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – وحتى اليوم تحت قيادة السلطان هيثم بن طارق، اختارت عُمان أن تكون جسراً للحوار لا ساحة للصراع، وأن تكون على مسافة واحدة من جميع الأطراف، دون أن يعني ذلك الحياد عن القيم أو المبادئ.

هذه الفلسفة لم تولد من فراغ، بل استندت إلى حكمة ترى أن الأمن الحقيقي لا يُكتسب بالانحياز إلى معسكرات، بل ببناء شبكة من المصالح والعلاقات التي تجعل من الدولة عنصر استقرار لا وقوداً للصراع.

في الذكرى الخامسة والخمسين للعيد الوطني، لا تحتفل عُمان بماضيها المجيد فقط، بل بمستقبلها الواعد كدولة ترفع راية الحكمة في زمن الطيش، وتصرّ على أن يكون صوت العقل مسموعاً فوق ضجيج المدافع

في محيط تعصف به النزاعات المذهبية والاستقطابات الإقليمية والدولية، قدّمت عُمان نموذجاً مغايراً: نموذج الدولة التي ترفض أن تكون أداة في يد أحد، وتصرّ على أن تكون وسيطاً نزيهاً يعمل لصالح الجميع.

لا يمكن فهم النجاح العُماني في الدبلوماسية دون فهم رأس المال الحقيقي الذي تمتلكه: الثقة. فبينما تشكك الأطراف المتنازعة في نوايا بعضها البعض، ظلت عُمان الجهة الوحيدة التي تحظى بثقة الجميع. هذا لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج تراكمي لسياسات متسقة.

لم تكن عُمان يوماً صدى لأحد، بل حافظت على قرارها السيادي بعيداً عن الضغوط الإقليمية والدولية. وتعاملت الدبلوماسية العُمانية بقواعد واضحة، لا تتنكر لها سرّاً ولا تتلاعب بها علناً. وفهمت عُمان أن حل النزاعات المعقدة يحتاج إلى صبر طويل، فلا تسعى للحلول السريعة الهشة.

لم تكن الدبلوماسية العُمانية يوماً خطابات نظرية، بل تجسدت في محطات كان لها تأثير ملموس على استقرار المنطقة. ففي وقت اشتدت فيه حدة الخطاب بين واشنطن وطهران، ظلت مسقط الميناء الآمن للحوار. واستضافت عُمان جولات متعددة من المحادثات السرية والعلنية، وكانت وساطتها عاملاً حاسماً في منع انهيار المسار الدبلوماسي تماماً، بعد أن أكدت أنها ليست مجرد ناقل للرسائل، بل شريك فاعل في صنع الحلول.

وبينما كانت التحالفات الإقليمية تتشكل وتتصادم في سماء اليمن، ظلت عُمان ملاذاً لكل الأطراف. استضافت مفاوضات سرية وعلنية، وحافظت على قنوات اتصال مع جميع الفصائل، من الحكومة الشرعية إلى الحوثيين. هذا الجهد لم يذهب سدى، حيث أطلق نشطاء يمنيون حملة شعبية بعنوان “سلام اليمن تكتبه عُمان،” تعبيراً عن تقديرهم لدورها النزيه.

وخلال الأزمة الخليجية التي شهدت مقاطعة عدة دول لقطر، ظلت عُمان جسر اتصال حيوياً، وساهمت في تخفيف حدة التوتر والحفاظ على قناة اتصال مفتوحة ساعدت في النهاية على حل الأزمة.

لم تكن الدبلوماسية العُمانية يوماً خطابات نظرية، بل تجسدت في محطات كان لها تأثير ملموس على استقرار المنطقة. ففي وقت اشتدت فيه حدة الخطاب بين واشنطن وطهران، ظلت مسقط الميناء الآمن للحوار

اشتهرت عُمان بلقب “سويسرا الشرق الأوسط،” وهذا اللقب لم يأتِ من فراغ. فكما أن سويسرا في قلب أوروبا ظلت محايدة رغم الحروب التي عصفت بالقارة، فإن عُمان في قلب الشرق الأوسط ظلت جزيرة سلام في محيط من العواصف. لكنّ العُمانيين أضافوا بعداً آخر: لم تكن محايدة سلبية، بل محايدة فاعلة، تدفع نحو الحلول ولا تنتظرها.

وبينما تسود العالم لغة القوة والتهديد، تذكرنا عُمان بحقيقة تاريخية أن القوة الناعمة الإيجابية قادرة على تحقيق ما تعجز عنه القوة الصلبة. فبينما تخوض دول أخرى حروباً بالوكالة وتنفق المليارات على التسلح، تستثمر عُمان في رأس المال البشري والعلاقات الدولية والسمعة الطيبة.

تكلفة الوساطة والدبلوماسية لا تقارن بتكلفة الحرب، سواء على المستوى البشري أو المادي. والحلول التي تنتج عن الحوار تكون أكثر استدامة من تلك التي تُفرض بالقوة. وتبقى السمعة الدولية كدولة محايدة وموثوقة أحد الأصول الإستراتيجية التي لا تُقدّر بثمن.

من أضواء العيد الوطني التي تملأ سماء عُمان، إلى أضواء غرف التفاوض التي تنير طريق السلام في المنطقة، تقدم السلطنة نموذجاً يُحتذى. إنها تثبت أن النهضة الحقيقية ليست في ناطحات السحاب والطرق السريعة فقط، بل في العقلية التي تبنيها والسياسات التي تتبناها.

في الذكرى الخامسة والخمسين للعيد الوطني، لا تحتفل عُمان بماضيها المجيد فقط، بل بمستقبلها الواعد كدولة ترفع راية الحكمة في زمن الطيش، وتصرّ على أن يكون صوت العقل مسموعاً فوق ضجيج المدافع.

رسالة عُمان إلى العالم واضحة: يمكنك أن تكون فاعلاً ومؤثراً دون أن تكون عدواً لأحد، وأن تكون قوياً دون أن تكون متغطرساً، وأن تبني سلامك وسلام جيرانك في آن واحد. هذه هي القوة الناعمة في أبهى صورها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى