رأي

حين تفيض العواطف والأفكار السياسية الرثّة في تونس

كتب المهدي مبروك في صحيفةالعربي الجديد.

شكّلت مظاهرات يوم الأربعاء الفارط في العاصمة تونس، والتي تداعى إليها أنصار الرئيس قيس سعيّد، حدثاً لافتاً، ولكن ليس بالمعنى الذي قصده الرئيس سعيّد، وهو الذي أشاد بها باعتبارها “حدثاً تاريخياً فارقاً”. ولا أحد يُنكر أنه وللمرّة الأولى منذ أكثر من ستّ سنوات من تولّي سعيّد الرئاسة، يفلح أنصاره في جمع مثل هذه الأعداد، بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف، بحسب تقديرات وكالات الأنباء الأجنبية (وكالة الأنباء الفرنسية ورويترز… إلخ). استطاعت المظاهرة التي انتظمت بمناسبة ذكرى اندلاع الثورة التونسية، بعد أن عمد الرئيس سعيّد إلى إلغاء الاحتفاء بها كما درجت العادة يوم 14 يناير/ كانون الثاني في تزامن مع ذكرى هروب الرئيس زين العابدين بن علي. يعتقد سعيّد أن ذلك التاريخ يشكّل يوم بداية الالتفاف على “الانفجار الثوري غير المسبوق”، وهي قراءة فردية، في حين تحتاج هذه المسائل الحسّاسة، بعدِّها جزءاً من الذاكرة الجمعية الوطنية، إلى توافق كبير. ولكن أيّاً كانت شرعية الاستفراد برسم سياسات الذاكرة، حين يستولي النظام على التاريخ يقدّم بذلك للأجيال الحاضرة والمقبلة سرديةً مُضلِّلة، ليس للتاريخ فحسب، بل لهُويَّتهم أيضاً.

تكشف اللغة المتداولة في تلك المظاهرة فقر اللغة والخواء الفكري الذي تتّسم به أوساط واسعة من الفئات السياسية وهي تعبّر عن ولائها السياسي

الأعداد التي تجمّعت في شارع الثورة الذي استولت عليه، تشكّل حشوداً لا علاقة لها بذلك اليوم التاريخي الذي غيّر إلى حدّ كبير تاريخ المنطقة، ووضع حدّاً، في سياقات مختلفة، لنظم استبدادية تهاوت لاحقاً، غير أن هذه الجموع المنفلتة من عقالها تقدّم رسالةً هي نقيض ما قامت لأجله جماهير الثورة التونسية، حين اكتسحت عنوةً هذا الفضاء الممنوع، واشتَبكت في ملحمة كبيرة مع نظام قوات الأمن حتى أجبرتها لاحقاً على الانسحاب من الطوق الأخير الذي ضربته على وزارة الداخلية التي تقع في قلب الشارع الرمز.
لعلّ اللافت للانتباه أن لا علاقة لهذه الحشود المُنفلِتة بالثقافة السياسية التي حملتها تلك الجموع المنتفضة منذ أكثر من 15 سنة، حين رفعت شعارات بليغة تدور في جلّها حول الحرية والكرامة والعدالة، في حين أن مظاهرة الأسبوع الفارط كانت موغلةً في الشخصنة والشتيمة، فهي تلهج باسم الرئيس سعيّد وترفعه إلى مرتبة الأولياء الصالحين، وفي ذكر مآثره تعمد إلى رسم صورة أخرى عنه مختلفة تماماً عن أيّ وصف موضوعي له. ففيما يشبه الطلاسم، يعيد هؤلاء رسم ملامح له تجعله أشبه بصاحب الكرامات والمعجزات، وهي في الحقيقة مؤشّرٌ خطيرٌ على أزمةٍ مستفحلةٍ لا تنتهي عند صيغ الجملة السياسية في تقييم الحصيلة السياسية لفترة حكم الرئيس سعيّد، بل أيضاً في الجملة السياسية التي يصوغها الناس للحديث عن السياسة عامة. هي حجّة مفحمة عن حجم الخراب السياسي الذي شهدته الثقافة السياسية للجماهير الواسعة، خصوصاً في ظلّ اختفاء تدريجي لجلِّ الفاعلين الأساسيين من المشهد على غرار الأحزاب والجمعيات والإعلام، هذا الأخير الذي أُجبر على غلق جلِّ برامجه والاكتفاء بتقديم حصص الطبخ وأوانيه فيما يشبه البازار الكبير. تؤكّد الشعارات التي رفعها أنصار الرئيس، علاوة على تصريحاتهم التي أدلوا بها، تعطّل التنشئة السياسية، واستسلام الفئات العريضة إلى مفاعيل “البروباغندا”.
تكشف اللغة المتداولة في تلك المظاهرة فقر اللغة والخواء الفكري الذي تتّسم به أوساط واسعة من الفئات السياسية وهي تعبّر عن ولائها السياسي، إذ بإمكان المرء أن يعبّر عن ذلك، وهذا حقّه، لكن بجملة سياسية واضحة ودقيقة، بغض النظر عن موقفنا منها.

يلاحظ عودة توظيف أجهزة الدولة وإمكاناتها في التحشيد السياسي لصالح الرئيس

الملاحظة الثانية، القدرة التعبوية التي أبرزتها المظاهرة. فللمرّة الأولى يستطيع أنصار النظام، كما جاء سابقاً، أن يجمعوا مثل هذه الأعداد. فاللفتات الأنيقة فضلاً عن الاستعراض المنظّم نسبياً في شكل قوافل مرتّبة بحسب منطقتها الجغرافية القادمة منها، والشعارات المرفوعة، تؤكّد مرّة أخرى أن “المجالس المحلّية” التي أعلنها الرئيس، من خلال مختلف المراسيم والقوانين، قد باتت في النهاية البناء القاعدي الذي صاغه لهندسة الحياة السياسية وتصميمها. لقد تحوّلت في النهاية إلى آلة ضخمة لحشد الناس وتعبئتهم في غياب “حزب سياسي للرئيس”، في سياق عام يشهد هجوماً على الأجسام الوسيطة، وتحديداً الأحزاب والجمعيات بشكل خاص، التي خُنقت وفُككت بشكل منهجي مدروس.
الملاحظة الثالثة (والأخيرة)، عودة توظيف أجهزة الدولة وإمكاناتها في مثل هذا التحشيد السياسي، إذ يذكر العديد من هؤلاء أن المسؤولين المحلّيين في مناطقهم الداخلية قد اتصلوا بهم من أجل دفعهم إلى الالتحاق بهذه القوافل المتّجهة إلى العاصمة، ممّا يؤكّد مرّة أخرى تحوّل الإدارة المحلّية والجهوية إلى أداة سياسية في مشروع الرئيس، الذي ينظر إلى تلك الجموع التي نزلت لمساندته فلا يرى فيها سوى جنود في معركة تحرّر وطني يتدربون على خوض جولات مقبلة. إنهم في مناورات حقيقية، وها هم قد بدؤوا بتوجيه “صفعة قوية في وجه المتآمرين”.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى