رأي

لغز تسريب الوثائق الأميركية

جاء في مقال الكاتب سالم الكتبي في صحيفة “السياسة” الكويتية :

استحوذ موضوع الوثائق الاميركية التي تم تسريبها على اهتمام الدوائر السياسية كافة في العالم خلال الفترة الماضية، فالمسألة تتصل بما يدور وراء كواليس صنع السياسات والقرارت في القوة صاحبة التأثير الستراتيجي الأقوى عالمياً حتى الآن.
هذا الموضوع يطرح تساؤلات عدة أهمها ما يتعلق بكيفية تسريب وثائق سرية من داخل وزارة الدفاع الاميركية، وهل تمت بالفعل من خلال الشاب الذي تم الكشف عن تورطه، أم من خلال حرب سيبرانية لا تريد المؤسسات الاميركية الاعتراف بحدوثها؟
باعتقادي أن هذه المسألة لها أبعاد لم تتكشف حتى اليوم، وسيبقى جانب كبير منها داخل خزائن الأسرار الاميركية التي تضم الكثير على هذا الصعيد، فليس من السهولة أن نصدق أن هذا الشاب الذي تم تصوير لحظات اعتقاله، هو من هدد علاقات واشنطن بالكثير من دول العالم من خلال تسريب وثائق على هذه الدرجة العالية من السرية والخطورة، ونشرها في مواقع ألعاب فيديو، ووسائل تواصل إجتماعي. هناك سيناريوهات عدة لتفسير ما حدث، بعضها يركز على أن المسألة تتعلق بعملية خداع استخباراتي دقيقة، من خلال تزييف هذه الوثائق لتحقيق أهداف مدروسة بدقة مثل تضليل أطراف أخرى، مثل روسيا والصين في لعبة الأمم، وذلك في إطار حروب المعلومات المحتدمة بين هذه الأطراف.
وهناك سيناريو أن التسريب تم بشكل انتقائي لوثائق حقيقية مختارة ومحددة بدقة، حتى وإن ظهر بعضها وكأنه يضر بالمصالح الستراتيجية الاميركية، لتحقيق أهداف معينة، مثل الضغط على دول أو أطراف لانتزاع تنازلات أو لتحقيق مصالح أمريكية.
أو الوقيعة بين بعض الدول والأطراف الدولية، أو منع بعضها من خطوات أو إجراءات معينة خشية إثارة المزيد من الغضب الأميركي المزعوم، وذلك لتحييد أدوار هذه الدول في إطار الصراع الستراتيجي مع الصين وروسيا، وترميم آثار التراجع الحاصل في الدور والتأثير الأميركي عالمياً. السيناريو الثالث ينطلق من وجود عملية اختراق معلوماتي حقيقية قد حدثت لمؤسسة عسكرية ستراتيجية ضخمة بحجم الـ”بنتاغون”، وهنا نكون بصدد كارثة أمنية معلوماتية كبرى للدولة الأقوى في العالم. المشكلة هنا أن هذا السيناريو لن يتم الاعتراف به، أو على الأقل الكشف عن أبعاده الحقيقية والأطراف المتورطة فيه داخليا وخارجيا. ندرك جميعاً أن التحليلات جميعها تميل إلى تغليب سيناريو الخداع الاستخباراتي، سواء بحكم طغيان نظرية “المؤامرة” على الكثيرين، أو بحكم “السوابق” العديدة على هذا الصعيد، ولأن هناك “كابح” لفكرة إختراق أقوى مؤسسة عسكرية في العالم، لكن الأمر الملاحظ أن معظم المنشور من هذه الوثائق لا يرتقي إلى درجة حساسية عالية للغاية، بحيث تضر بالعلاقات الاميركية مع دول كبرى.
أو تضع السياسة الخارجية الاميركية في مأزق حقيقي، وهذا أمر له دلالاته، خصوصاً في ظل ما يقال بشأن الشاب الذي سريب الوثائق، حيث لا جدوى من نشر بعض هذه الوثائق، حتى ولو من باب اثبات القدرة على امتلاك وثائق أو معلومات مهمة!
المتحدث باسم الـ”بنتاغون” رفض الاجابة عندما سئل: عما إذا كان يعتقد أن الوثائق حقيقية، وقال: “بعضها يبدو أنه عدل”، وأشار إلى أن شكل الوثائق مشابه لتلك المستخدمة لتقديم تحديثات يومية لكبار القادة بشأن أوكرانيا، والعمليات العسكرية الروسية. بموازاة ذلك نقلت تقارير إعلامية عن مسؤولين في الـ”بنتاغون” تأكيدهم أن الوثائق حقيقية.
في جميع الأحوال هناك حرص واضح للغاية على أن بعض الوثائق قد تم تعديلها أو تحريفها، ما يعني تعمد إثارة الخلط بين ما هو حقيقي وما هو معدل، وذلك بهدف تعميق الإرباك لدى من يريد الإستفادة منها، وقد يكون ذلك أيضاً بهدف التضليل، أو الحد من موثوقيتها، ودفع الآخرين لتجاهلها.
التركيز الكبير للوثائق المسربة على تصوير ما يجري في أوكرانيا ربما يكون له دلالة معينة، لاسيما في ما يتعلق بدور دول أخرى في تقديم التدريب للقوات الأوكرانية، والخسائر التي تكبدها طرفا الحرب، ونقاط الضعف العسكرية، ونقاط قوتهما النسبية المتوقعة عندما تشن أوكرانيا هجوم الربيع.
الوثائق تشير إلى أن خسائر روسيا البشرية تفوق نظيرتها الأوكرانية، وقد تصل إلى ضعفها تقريباً، وهذا بحد ذاته يمثل إحراجاً كبيراً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورغم أن الأرقام التي تداولتها الوثائق المسربة تقارب الأرقام المعلنة، فإن ظروف التسريب والاهتمام الإعلامي الذي رافقه يضيف عليها قدراً من المصداقية والجاذبية.
ثمة نقطة أخرى أيضاً تتعلق بأن الكشف عن الاستعدادات الأوكرانية لهجوم الربيع المرتقب لا تضيف الكثير من الناحية الفعلية، لأن روسيا يفترض أن تجمع ما تحتاج من معلومات، أو لأن لا يمكن الإعتماد على معلومات ترد بهذا الشكل المحاط بعلامات الاستفهام.
اللافت أن الكثير من الوثائق تركز على كشف جوانب الضعف في الدفاعات الأوكرانية، ما دفع بعض المشرعين الأميركيين للتحذير من استغلال روسيا لهذه المعلومات، والمطالبة بتعويض أوكرانيا عن “فضح” هذا القصور، والاسراع بتزويدها بالعتاد اللازم. مسألة تسريب وثائق سرية من مؤسسة ما ليست طارئة في التاريخ الأمبركي، فهناك العديد من السوابق التاريخية لذلك أشهرها فضيحة “ووتر غيت”، التي انتهت باستقالة نيكسون، ووثاق سجن “أبوغريب” العراقي التي فجّرها سيمور هيرش عام 2004، وتسريبات “ويكليكس” ومعظمها لم يتم الكشف عن أبعاده وخلفياته بشكل كامل حتى اليوم.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى