أوروبا وتايوان والمنطقة: إلى أين تهرب أميركا؟
القارة العجوز لا تزال قلب العالم، وأي حرب أو تطورات دراماتيكية فيها تشغل العالم أكثر من أي حرب أو تطورات في منطقة أخرى، كما كشف الهجوم الروسي على أوكرانيا.
قبل عامين قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الباحث عن “استقلال استراتيجي” وقوة أوروبية، إن حلف الـ “ناتو” في حال “موت دماغي”، وقبله رأى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب أن الحلف “تقادم في الزمن” ولم يعد “ذا صلة”، ثم تراجع ليطالب الدول الأوروبية برفع حصصها في موازنة الـ “ناتو” إلى اثنين في المئة من الدخل القومي لكل دولة، قائلاً “انتهى وقت الركوب المجاني على ظهر أميركا”.
لكن تغيير الاهتمامات الاستراتيجية بدأ مع الرئيس باراك أوباما بعدما تعبت الولايات المتحدة من مغامرات الرئيس جورج بوش الابن في العراق وأفغانستان، وكان تصوره أن تضييع الوقت في الشرق الأوسط حيث الصراعات والحروب التي لا تنتهي، وفي أوروبا التي استقالت من التاريخ، لم يعد ترفاً تستطيع واشنطن ممارسته، وأمر اليوم هو التوجه إلى الشرق الأقصى حيث “الثروة والقوة” والتنافس مع الصين وروسيا، وهو سحب القوات الأميركية من العراق وزادها في أفغانستان قبل أن يضطر إلى إعادة بعضها إلى بغداد وتخفيفها في كابول، ثم استقتل للحصول على الاتفاق النووي مع إيران كي يترك الشرق الأوسط بين قوة شيعية بقيادة إيران، وأخرى سنيّة بقيادة تركيا والإخوان المسلمين، ثم جاء نائبه، الرئيس الحالي جو بايدن، ليكمل التوجه نحو الشرق الأقصى وتخفيف الالتزامات في أوروبا والشرق الأوسط.
لكن حرب أوكرانيا قلبت الاهتمامات، فإدارة بايدن اكتشفت أن لا مهرب من الانخراط في الشرق الأوسط وأوروبا بموازاة الانخراط في الشرق الأقصى، وحلف الـ “ناتو” يجدد شبابه ويتوسع ويصبح دخوله هدف كل دولة أوروبية لحماية نفسها.
ألمانيا زادت موازنتها العسكرية إلى 100 مليار دولار، أي اثنين في المئة من الدخل القومي، وكل الاهتمامات العسكرية والاستراتيجية تدور حول أوروبا ومرحلة ما بعد أوكرانيا، والسؤال هو أي نظام أمني؟ وماذا لو استغلت الصين التراجع الأميركي أمام الهجوم الروسي على أوكرانيا وشنت حرباً لاستعادة تايوان بالقوة، بعدما استعادت هونغ كونغ بالتفاوض مع بريطانيا؟ هل بقيت ملتزمة وعد ماو للرئيس نيكسون والوزير كيسينجر بالصبر “100 سنة” قبل استعادة تايوان؟ وإلى أي حد يلتزم شي جينبينغ بموقف الرافض للحروب كأداة لحل للنزاعات؟
اقرأ المزيد
أبعد من اتفاق نووي… “غرام” وأوهام استراتيجية
عندما تخترق إسرائيل الأمن الإيراني
لماذا قررت إيران أخيرا إطلاق نازانين زغاري راتكليف وأنوشه عاشوري؟
المؤسسات الإسلامية من منظور معاصر
درس أوكرانيا يؤكد أن أميركا لن تتورط في حرب مع الصين “ستقود إلى محرقة، لأن البلدين يملكان كل الأنواع من أسلحة الدمار الشامل”، كما يقول كيسينجر، لا بل إن أميركا التي استمرت في الانخراط مع الصين إلى أن أصبحت قوة عظمى “تخشى سلاح القومية في الصين، وتتمنى أن تكون الصين شيوعية لا رأسمالية، لأن الشيوعية منعت الاتحاد السوفياتي من ممارسة سلاح القومية”، بحسب البروفسور جون ميرشيمر، فالرأسمالية سمحت للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن يمارس سلاح الوطنية، وروسيا اليوم المعزولة عن الغرب والمحتاجة بشدة إلى الصين، يحذرها خبير في موسكو من أن تنمية العلاقة مع الصين يجب أن يصاحبها التحرك لحمايتها من “الشعور بدوار النجاح”، لئلا تعود إلى نموذج “الإمبراطورية الصينية خلال العصور الوسطى”، ولا شيء يمنع إيران من زيادة الهيمنة على العراق وسوريا ولبنان واليمن، وحشد الصواريخ حول إسرائيل الغاضبة والخائفة من عودة أميركا للاتفاق النووي مع إيران من دون أي قيد على برنامج الصواريخ الباليستية والنفوذ الإقليمي والسلوك المزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط، فماذا لو قررت إسرائيل تدمير الصواريخ وضرب “حزب الله” في لبنان، وبالتالي تدمير لبنان؟ ماذا تفعل أميركا؟ هل تستمر في الهرب من الشرق الأوسط؟
الخبير الأميركي الإيراني الأصل والي نصر على حق حين قال في مقالة نشرتها “فورين أفيرز”، إن ما فعله بايدن دفع العرب إلى البحث عن استراتيجيات جديدة لحماية مصالحهم، فأميركا، في رأيه، “لا تستطيع تخفيف الأخطار كلها في الشرق الأوسط، لكن عليها تجنب أن تغدو الأمور أسوأ”، وهي “تحاول إعادة التوازن الذي هزته بغزو العراق ولكن في ظروف متغيرة من خلال مواجهة تحديات كونية عاجلة”.
وترك المنطقة مغامرة خطرة لأنه “من دون ترتيب أمني جديد، فإن الفوضى والصراع سيكونان أمر اليوم”، وبداية فأي ترتيب أمني هو “تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي”، لا بل إن والي يرى أن اللا اتفاق مع إيران سيجبر واشنطن على العودة للمنطقة، ولا أحد يعرف إن كانت أميركا تعلمت من أخطائها في أفغانستان والعراق، ولا إلى أين تأخذها حرب أوكرانيا، لكن كيسينجر يقول في مقالة نشرتها الـ “إيكونيميست” البريطانية، إنه “عندما غادر الطالبان أفغانستان فقدنا التركيز الاستراتيجي”، وهو قال قبل ذلك إنه “يجب التركيز على الأهمية الجيو-استراتيجية للعراق، وإذا حاول الراديكاليون الشيعة السيطرة على السنّة والكرد بالتحالف مع إيران، فسوف نشهد عملية تحول وجودي في المنطقة لها انعكاسات على دول الخليج ولبنان”، وهذا حصل من دون أن تفعل أميركا أي شيء وهي تهرول نحو الاتفاق النووي، ولا مجال للهرب من المنطقة لأن التوجه إلى الشرق الأقصى لمواجهة الصين وروسيا يترك الشرق الأوسط منطقة فراغ لتزايد الانخراط الروسي والصيني.