عندما تفقد خارجية الدبيبة توازنها الدبلوماسي

كتب الحبيب الأسود في صحيفة العرب.
المغرب كان على الدوام الحاضنة الرسمية للفرقاء الليبيين انطلاقا من عدم التدخل في شؤونهم الداخلية وخياراتهم.
لم يكن مستغربا أن ينزعج رئيس الحكومة الليبية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة من الاتفاق المعلن في مدينة بوزنيقة المغربية بين فريقي مجلسي النواب والدولة، خاصة عندما يتعلق الأمر بتشكيل سلطات تنفيذية جديدة قادرة على بسط نفوذها في كامل أرجاء البلاد، وبالتالي على تجاوز حالة الانقسام الحكومي وتهيئة الظروف الملائمة لتوحيد المؤسسة العسكرية وتحقيق المصالحة وتنظيم الانتخابات التي طال انتظارها.
فالجميع يعلم أن الدبيبة يرفض التخلي عن كرسي الحكم الذي وصل إليه بواسطة انتخابات داخلية بين أعضاء ملتقى الحوار السياسي، وفي ظروف تشوبها الكثير من الشكوك حول عملية التصويت التي تمت في جنيف في الخامس من فبراير 2021، وذلك باعتراف الخبراء الدوليين وبتلميح البعثة الأممية التي تعمدت بعد ذلك تهميش لجنة الحوار وتحييدها عن الدور الذي كان من المقرر أن يكون رئيسيا في تسيير شؤون الدولة وتحديد مستقبلها السياسي.
تحركت خارجية الدبيبة لتعرب عن استغرابها من استضافة المملكة المغربية لجلسة حوار بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة «دون التنسيق معها واتباع الإجراءات الدبلوماسية المعمول بها في مثل هذه اللقاءات» رغم أنها تعلم جيدا أنها ليست المرة الأولى التي يجتمع فيها المجلس على أرض المملكة، وإنما كان المغرب على الدوام الحاضنة الرسمية والشعبية والاجتماعية والثقافية والإنسانية للفرقاء الليبيين، انطلاقا من مبدأ عدم التدخل في شؤونهم، وعدم التأثير على خياراتهم واختياراتهم، وهو ما تجسد بالخصوص في الاتفاق السياسي الذي تم إبرامه في الصخيرات قبل تسع سنوات، ولا يزال إلى اليوم يمثل عماد العملية السياسية في ليبيا، وفي الاتفاق حول توزيع المناصب السيادية المبرم في يناير 2021، وغيره من الاتفاقات التي ساهمت بدور أساسي في مغادرة مربع الحروب الأهلية واعتماد الحوار بدلا عنه.
بقاء الدبيبة في الحكم يحتاج إلى استمرار الانقسام، وهو ما يتناقض مع أهداف اجتماع بوزنيقة وجهود الرباط لتوحيد ليبيا
خارجية الدبيبة دعت وزارة الخارجية المغربية إلى «ضرورة التنسيق المسبق معها لعقد أيّ اجتماعات بين الأطراف الليبية على أراضي المملكة، ضمانا لعدم انخراط بعض الأطراف في مسارات موازية تشوش على الجهود الليبية الرامية للوصول إلى حل مستدام من شأنه أن يرسخ للسلام والاستقرار الدائمين، والتي يجري التنسيق فيها مع البعثة الأممية للدعم في ليبيا»، وشددت «على ضرورة التزام المغرب بهذا النهج الدبلوماسي المتعارف عليه.»
لكن ما لا تدركه خارجية الدبيبة أن المملكة المغربية الحريصة على مصالح ليبيا والليبيين تتعامل مع الجسم الشرعي الوحيد المنتخب مباشرة من قبل الشعب، ومع السلطة التشريعية التي تحظى باعتراف دولي كامل، وهو ما أكده مجلس الدولة الذي اعتبر أن دور وزارة الخارجية يقتصر على تهيئة الظروف اللازمة وتقديم الدعم اللوجستي لأعمال السلطة التشريعية داخل البلاد وخارجها متى ما طلب ذلك منها، دون أن يكون لها الحق في الاعتراض على قراراتهم أو تدخلها في شؤونهم، وتقدم بعبارات الشكر إلى المملكة المغربية، ملكا وحكومة وشعبا، على الجهود المستمرة التي تبذلها لتقريب وجهات النظر بين الأطراف الليبية ودعمها مساعي حل الأزمة الليبية.
كما أنه من غير المعقول ولا المنطقي التشكيك في صحة النهج الدبلوماسي المعتمد من قبل المملكة المغربية ذات النظام السياسي العريق الذي يعود تأسيسه إلى القرن السابع عشر، ولا في قدرة المملكة على التفريق بين العمل الصالح من أجل نصرة الأشقاء والدفع بهم إلى تجاوز أزماتهم، وبين الشعارات الجوفاء التي يطلقها البعض ممن يحاولون تزييف الوقائع وتزوير الحقائق والعبث بمصالح الجيران وتهديد أمنهم واستقرارهم.
ولعل مجلس الدولة قد أفلح في توضيح المسألة عندما بيّن أن لقاء بوزنيقة جاء استكمالا لمسار الحوارات السابقة، التي انطلقت في تونس بتاريخ 28 فبراير 2024، وتبعتها جولة ثانية في مصر بتاريخ 18 يوليو 2024، كما أنه امتداد معلن لجهود المملكة من أجل تقريب المسافات بين الفرقاء الليبيين وهي التي تقف على نفس المسافة منهم، وكانت دائما على استعداد لاستقبال قادة طرابلس وبنغازي من دون تمييز بينهم.
الدبيبة يدفع نحو رفض مخرجات اجتماع بوزنيقة ونحو التحرش بالدبلوماسية المغربية العريقة، ويحاول أن ينتهز كل الفرص للبقاء في كرسي رئاسة الوزراء
كما أن اللجنة التنسيقية للقاءات المشتركة بين أعضاء مجلسي النواب والدولة في ليبيا، أكدت بوضوح تام أن أعضاء المجلسين «لا يحتاجون إلى موافقة أحد من أجل الاجتماع بأي مكان يرون توفر الظروف الملائمة به للنجاح سواء داخل البلاد أو خارجها»، وهي بذلك توجه صفعة كانت خارجية الدبيبة في حاجة إليها لكي تستفيق من حالة التبعية المفضوحة لنظام الجنرالات المجاور، ومن وهم التأثير في مجرى الأحداث بمحاولة التشويش عليها.
ويدرك الجميع أن الدبيبة لا يرتاح لأيّ توافق بين مجلسي النواب والدولة، وهو مصرّ منذ أغسطس الماضي على تكريس حالة التشقق والتصدع والانقسام داخل مجلس الدولة بدعم فريق محمد تكالة وإعلان الحرب على فريق خالد المشري الأقرب إلى فكرة التقارب مع مجلس الدولة وخاصة في ما يتعلق بتشكيل حكومة جديدة تكون قادرة على بسط نفوذها على كافة مناطق البلاد وتهيئة الظروف لتنظيم الانتخابات التي طال انتظارها.
يبدو الدبيبة واضحا بجلاء في رفضه التخلي عن السلطة التي أصبحت بالنسبة إليه غنيمة لا يمكن التفريط فيها، وهو مدعوم في ذلك من قبل أمراء الحرب وقادة الميليشيات وأباطرة الاعتمادات المستندية وتيارات الإسلام السياسي الدائرة في فلك رئيس دار الإفتاء بطرابلس صادق الغرياني، ومن قبل كل من يركبون صهوة الفساد، ويستفيدون من استمرار الأزمة سواء للإفلات من العقاب أو لنهب المال العام.
يعلن الدبيبة أنه لن يتخلى عن السلطة إلا لحكومة منتخبة مباشرة من الشعب الليبي وفق قوانين منبثقة عن دستور جديد يتم استفتاء الشعب عليه، وهو ما لن يتحقق في عام أو عامين أو ثلاثة، لاسيما في ظل الخلاف الحاد حول مسودة دستور 2017 ورفضها من قبل أغلب الليبيين بمختلف مكوّناتهم الاجتماعية والثقافية.
يدفع الدبيبة نحو رفض مخرجات اجتماع بوزنيقة ونحو التحرش بالدبلوماسية المغربية العريقة، ويحاول أن ينتهز كل الفرص للبقاء في كرسي رئاسة الوزراء، وآخرها الاحتكاك بموسكو وتقديم نفسه لواشنطن وحلفائها الغربيين أنه المؤهل لمواجهة أي نفوذ روسي في بلاده بالتزامن مع دق الغرياني طبول الحرب على شرق البلاد.
يرى الدبيبة أن بقاءه في الحكم يحتاج إلى استمرار الانقسام السياسي والعسكري في البلاد، وهو ما يتناقض تماما مع أهداف اجتماع بوزنيقة، ومع جهود الرباط لتوحيد ليبيا وإخراجها من بؤرة التشتت والتجزئة، وتمكين الدولة الليبية من استعادة شعبها والانطلاق نحو مستقبل مزدهر.
فقدت خارجية الحكومة المنتهية ولايتها توازنها، ويبدو أنها فقدت القدرة على التمييز بين من يريد الخير بالليبيين، ومن لا يزال يحاول تهميش الدور الليبي ومحاصرته في دول الجوار وفي منطقة الساحل والصحراء ويعمل على تأبيد الانقسام الداخلي في ليبيا بسبب خضوعه لتأثيرات عقد تاريخية، وتبنيه عقيدة تقسيمية لا يزال يراها الأفضل لضمان دوره، رغم فشله الذريع في المساس بوحدة المملكة المغربية.