أحداث السويداء وطموحات الهيمنة على المنطقة

كتب د. خالد قنديل في صحيفة الأهرام.
لا يمكن فصل الأحداث التي شهدها الجنوب السوري في محافظة السويداء ومناطق الدروز، وما تلاها من تدخل سافر للاحتلال بالمقاتلات الحربية، مستهدفًا أهدافًا تكتيكية بالمحافظة، ثم مقري هيئة الأركان ووزارة الدفاع ومحيط القصر الرئاسي بالعاصمة دمشق، عما يجري من تحولات كبرى تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
اشتباكات موسعة بين البدو السوريين والدروز، ثم تدخل من قبل قوى الأمن لفض الاشتباك، يؤكد بعدها الدروز أن الميليشيات المحسوبة على قوات الأمن قد أهانت شيوخ الطائفة وارتكبت الجرائم بحقهم، ليأمر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه كاتس الجيش بالتدخل، ثم يمهل القوات السورية ساعات لسحب جميع القوات من السويداء، وهو ما حدث بالفعل. كما حدث أن صرح نتنياهو بلسان الحاكم، بأن النظام السوري ليس مسموحًا له بأي وجود عسكري في سوريا باستثناء العاصمة دمشق.
يعيدنا هذا المشهد إلى ما بعد سقوط نظام بشار الأسد وتوغل الفصائل المسلحة بقيادة الشرع وسقوط الدولة في أيديهم، بعد أيامٍ فقط من تهديد نتنياهو لبشار وتصريحه بأنه “يلعب بالنار”، ثم استيلاء جيش الاحتلال على أراضٍ بمساحات أكبر من الحدود في هضبة الجولان؛ بدعوى “منع دخول قوات المتمردين إلى المنطقة”، ثم العمل على تدمير جزء كبير جدًا من القدرات العسكرية السورية، والتحرك نحو إنشاء منطقة عسكرية عازلة في الجنوب.
لم تكن تلك الأحداث بعيدة عن وقائع الأمس القريب، وهذا التدخل السافر بحجة حماية الدروز من نظام الشرع الذي دعا إيتمار بن غفير، وزير الأمن الداخلي، علنًا لاغتياله ومؤكدًا: “أن من كان جهاديًا سيصبح جهاديًا ولن يتغير”. أحداث السويداء سبقتها وقائع دالة، منها لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالشرع في مايو وتأكيده رفع جميع العقوبات الأمريكية، وحث الكيان المحتل على التواصل مع دمشق.
وعلى الرغم من تصريحات الرئيس السوري أحمد الشرع في كلمة متلفزة، بأن “الدولة السورية تمكنت من تهدئة الأوضاع رغم صعوبة الوضع، وأن التدخل الإسرائيلي دفع البلاد نحو مرحلة خطيرة تهدد استقرارها نتيجة القصف السافر للجنوب ولمؤسسات الحكومة في دمشق”، وأنه “لا يجوز محاكمة الطائفة الدرزية “العريقة” بأكملها بسبب تصرفات فئة قليلة، وأن محافظة السويداء لا تزال جزءًا أصيلًا من الدولة”، وقبل ذلك صرح بأن “الهجوم على العوائل الآمنة وترويع الأطفال أمر مدان ومرفوض بكل المقاييس، واحترام المدنيين وضمان أمنهم واجب وطني، وأن الدولة لكل أبنائها من الطائفة الدرزية وقبائل البدو على حد سواء”، تظل هناك عقبة كبيرة أمام جدية هذه التصريحات، حيث تبقى مجرد تصريحات أمام كثير من المخاوف المشروعة، في ظل الخلفية السياسية للرئيس السوري الذي كان بالأمس القريب زعيمًا لـ”هيئة تحرير الشام”، واسمه أبو محمد الجولاني، وانضمامه من قبل لتنظيم القاعدة “النفعي”؛ حيث الغايات التي تبرر الوسيلة.
وقد عُرف عن تنظيمات الإسلام السياسي، إبداء المرونة تجاه التوافقات إلى أن تسنح الفرص لبسط سيطرتها بملامح مغايرة، لكنها تتسق مع الأهداف والانتماءات الأولى. فتاريخ الفصائل المسلحة لا يخفى على أحد، كما هو معروف أن من ينضوي تحت لواء الجماعات الأيديولوجية المتطرفة، لا يغادر أفكارها بسهولة، بل يظل أسيرًا لتوجهاتها، مهما أبدى من تغيير في الخطاب. ولنربط ذلك بتصريح توم باراك بأن الكيان المحتل وسوريا اتفقتا على وقف إطلاق النار، وإذا كان ذلك هو الاتفاق الظاهر، فأي اتفاقات ضمنية أخرى تنطلق الأسئلة عنها من واقع تساؤلات حول اهتمام الكيان المحتل بأمن وسلامة الدروز، واهتمامه بوقف إطلاق النار.
ولا ننسى تصريحات الشرع بأن هناك مفاوضات غير مباشرة مع الاحتلال، مؤكدًا أن لسوريا و”إسرائيل” أعداء مشتركين. كذلك لا ننسى إعلان ترامب خلال جولته الخليجية في مايو الماضي، والتي التقى خلالها بالشرع، رفع العقوبات المفروضة على دمشق وحثه على التطبيع مع الكيان المحتل.
إذن المخاوف تظل مطروحة ومشروعة جدًا في ظل العبث الأمريكي بالمنطقة عبر “الاحتلال” ذراعه الأثيم، وفي ظل استمرار الإبادة والتجويع والاستيطان بالأراضي الفلسطينية، والمماطلات لمنع وقف إطلاق النار في غزة، وفي ظل الحديث المتكرر والحيل تلو الأخرى لدفع أهل غزة نحو التهجير، والحديث عن رسم خارطة جديدة للمنطقة.
وفي سوريا فإن دعم الاحتلال للدروز قديم، وليس لأهداف إنسانية بالطبع أو دينية، بل جزء من استراتيجية أكبر، حيث يأخذ أشكالًا متباينة هدفها إضعاف المؤسسة العسكرية السورية، وإيجاد ثغرات دائمة داخل النسيج السوري، توجد الذرائع لإضعاف الدولة. فعلى الرغم من هذه المفاوضات غير المباشرة مع الكيان لا يفوتنا أن الاحتلال قد مارس ضغطًا على واشنطن لإبقاء سوريا ضعيفة بعد سقوط الأسد؛ ليتضح هذا المسعى بفرض السيطرة الإسرائيلية على مساحات شاسعة بين هضبة الجولان وجبل الدروز، لضمان التحرك بحرية، ومنع أي تشكيلات مسلحة تعيق التمدد، توازيًا مع وجود ما يعرف بـ”مشروع ممر داود”، كخطوة لربط شبكات المواصلات بما يحقق مصالح الكيان الاستراتيجية. فالمشروع يبدأ من مرتفعات الجولان المحتلة بالجنوب الغربي، مارًا بالمحافظات السورية المحاذية للأراضي الفلسطينية “المحتلة” والأردن، ليتسع شرقًا عبر السويداء في جبل حوران ويدخل إلى البادية السورية ناحية معبر التنف الإستراتيجي على الحدود السورية العراقية الأردنية، أي أن التهديد قد يصل إلى غرب العراق.
وبإمكاننا أن نقرأ هذه التفاهمات “السورية” مع الاحتلال وواشنطن، بعد تورط القوات الإسرائيلية في أحداث الجنوب السوري، تهيئة لفرض الهيمنة على القرار السوري، مع إجبار الدولة على التطبيع بشروط إسرائيل، والتي قد تتضمن توقيعًا على اتفاق بإلغاء أي مطالبات مستقبلية باستعادة هضبة الجولان المحتلة.
محاولات قائمة من الاحتلال بدعمٍ أمريكي حاضر، لإحداث تفتيت ناعم لسوريا في مناطق ضعيفة بلا كيانات رسمية، ولا ننسى هنا التجربة اللبنانية، مع إشعال فتيل النزعات الطائفية وجعل الأقليات أدوات سياسية وجغرافية لتحقيق أهداف الاحتلال بالتوسع، مما يدفع بمخاطر محاولات دفع النفوذ بطرق أخرى تجاه الأردن ولبنان والعراق مع استمرار الأزمة في فلسطين، ليظهر الشرق الآن كرهينة خارطة مفروضة عليه، وبحاجة إلى وفاق إقليمي موحد نابع من إرادة موحدة لمواجهة هذا المخطط.