صدى المجتمع

غسان كنفاني في “دفتر اليوميّات”: كتاباتٌ أولى أمام عالم مُوحِش

“إنّ الضباب الأسود غير موجود في الطبيعة، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يؤكّد أنه ليس أبعث على الراحة من الضباب الطبيعي الذي لا لون له؟”. بهذه الكلمات يبدأ الروائي والقاصّ والناقد والشهيد الفلسطيني غسان كنفاني “اليوميات”، التي كتبها في الكويت بين عامَي 1960 و1965، ورأت النور أول مرّة في العدد الثاني من “مجلة الكرمل” في بيروت عام 1981، قبل أن تُعيد “دار راية” طبعها في كتاب صدر حديثاً بعنوان “صفحات مختارة من دفتر اليوميّات”، وقدّم له صبحي حديدي.

هل كانت رؤية كنفاني (1936 – 1972)، الشابُّ العشريني آنذاك، متشائمة وسوداوية حتى كتبَ ما كتب؟ هذا أول ما يلفتنا ونحن نُطالع “اليوميات”، خاصة أن تلك العبارة الافتتاحية جاءت بتاريخ اليوم الأخير من عام 1959، وأن عبارة اليوم الأول من العام التالي لم تكن أفضل حالاً: “هذه اليوميات عمل كريه، ولكنه ضروري كالحياة نفسها… وبدا كل شيء تافهاً لا قيمة له، فقرّرت أن أكتب شيئاً… لكنّني فضّلتُ، لحظتذاك، أن أبكي”.

تجربة وسّعت مدى الكتابة أبعد من حدود الذات المتكلّمة 

قد نجد جواباً مباشراً عن هذا في إصابته بداء السكري، حين يصف تجربته و”القرف” الناجم من الحقنة اليومية، وإسعافه ذات مرّة إلى المستشفى مع ما صاحبها من هذيان، انتهى بحشو فمه بقطع من البسكويت. ولكنّ “الانخذال الكامل الذي يحسّه إنسانٌ صُفِع بشيء آمن به، فإذا به عند الآخرين لا يُساوي شيئاً”، كما كتب في اليوم الخامس من عام 1960، قد يكون الجواب الأعمق عند شخصية مُرهفة ككنفاني. ومن خلال هذه الصفة بالذات، أي الرهافة، يُمكن أن نقرأ تفاصيل هذا العالم معه، ينظرُ إلى أطفال الحي يلعبون الكرة، فيكتب: “جمال المباراة كان في الجهد المبذول لا في مستوى اللّعب”.

كذلك يحضر الحبُّ في هذه اليوميات، حيث ينقل مقاطع من رسائل تُظهِر الوقع الرومانسي (حتى خارج الحبّ) الذي ينظُم رؤية شابٍّ صدمته قسوة العالَم: “أيتها الغالية لماذا قُدّر للإنسان أن تكون أعمقُ جروحه تلك التي يحفرُها بيده؟”. وبغضِّ النظر عن جُرعة التشكّي والذاتية التي تَسِم “الكتابات الأُولى” عادة، إلّا أنّها تجد منافذ لها نحو الواقع الصّلب الذي يُخفّف من ثقلها إلى حدٍّ ما ويُحرّرها، وهذا يعود إلى كون كاتبها صاحب وعي مُلتزِم وتجربة سياسية، ذهبا به أبعد من أن يستعصي في “كهف الأنا”.

على مستوى آخر، يتحدّث كنفاني في هذه اليوميّات عن قصص في رأسه، إمّا ما زالت في حال النموذج المُجرّد الذي يبحث عن هيكل وتمثيل، أو فيها “مُشكلات” تتعلّق بالكتابة ذاتها، من حيث ترجمة النص على الورق. فالتدوينة التي كتبها في السابع عشر من يناير/ كانون الثاني 1961 مهمّة جداً في هذا السياق؛ الجمل العابرة، والكتابة على دفعتين، والكتابة من داخل منطق القصة نفسها، فلمّا كان عنوان إحداها “المجنون”، يُصبح “خلق” المجنون، في رأيه، أصعب من “دراسته”.

“وحين نظرتُ في عيني آني فهمتها، ولستُ أدري لماذا أوشكتُ أن أبكي، بل إنني أحسستُ بالدموع تطوف في حلقي مثل الغصة”، من التدوينة الأخيرة في هذه اليوميات، والتي صار فيها غسان أبا فايز، حيث يصف فيها ولادة ابنه، وأنه غدا أباً: “وأنا أخرجُ من غرفة أمِّك عرفت أيضاً معنى الهمّ، ذلك العبء الذي يُثقل أكتاف الرجال، لأنه ينبع من الداخل، والذي يُعطي الحياة ذلك الحافز النبيل”.
 
يُشار إلى أن هذه التدوينة، هي الأخيرة من “اليوميات”، في حين أن طبعة عام 2018 التي أصدرتها “دار راية”، ضمّت تدوينات موجزة وساخرة ونقديّة، وقّعها كاتبها بحرفَين أ. ف (أبو فايز)، ونشرت في “صحيفة المُحرّر” اللبنانية.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى