شراكة القاهرة وأنقرة تثير مخاوف إسرائيل

كتب محمد صابرين في صحيفة بوابة الأهرام.
توقفت العديد من عواصم الدول الكبرى، ودوائر مهمة على ضفتَي المتوسط، أمام إجراء مصر وتركيا مناورات عسكرية لأول مرة منذ 13 عامًا. ولعل سر الاهتمام غير العادي يكمن في الزخم الكبير الذي تُحدثه الشراكة الإستراتيجية بين مصر وتركيا. والأرجح أن استمرار تعاون القاهرة وأنقرة بهذه الوتيرة يخلق “توازنات جديدة” في المعادلات الإستراتيجية في الشرق الأوسط وشرق المتوسط.
ولم يكن غريبًا أن إسرائيل كانت من أوائل من توقف أمام المناورات العسكرية المصرية – التركية، وسلطت وسائل الإعلام الإسرائيلية الضوء على المناورة البحرية المشتركة بين مصر وتركيا تحت اسم “بحر الصداقة”، والتي بدأت يوم الإثنين الماضي، وتستمر حتى 26 سبتمبر الحالي في شرق البحر المتوسط.
وأفادت قناة “i24NEWS” الإسرائيلية بأن هذه المناورات تأتي بعد انقطاع دام 13 عامًا، مشيرةً إلى تصريح المتحدث باسم وزارة الدفاع التركية زكي آكتورك الذي أعلن مؤخرًا عن استئناف التدريبات العسكرية البحرية المشتركة بين البلدين.
وأوضح الجنرال التركي أن المناورات ستُجرَى خلال الفترة من 22 إلى 26 سبتمبر، وهي تُعَدّ الأولى من نوعها منذ عام 2013، بهدف تطوير العلاقات الثنائية وتعزيز قدرات التعاون العملياتي المشترك بين القوات البحرية التركية والمصرية.
وأشار زكي آكتورك إلى أن “يوم المراقبين المميز” المقرر عقده في 25 سبتمبر سيشهد حضور قائدَي القوات البحرية في البلدين، في خطوة رمزية تعكس مستوى التنسيق العسكري المتقدم بينهما.
وكشفت وزارة الدفاع التركية أن السفينتين المصريتين “تحيا مصر” و”فؤاد ذكري” سوف تزوران ميناء “أق ساز” التركي ضمن إطار المناورة، فيما ستُشارك من الجانب التركي الفرقاطتان “تي جي غي الريس عروج” و”تي جي غي غيديز”، والزوارق الهجومية “تي جي غي إيمبات” و”تي جي غي بورا”، إضافةً إلى الغواصة “تي جي غي غور”، وطائرتَين مقاتلتَين من طراز F-16، إلى جانب وحدات من القوات البحرية المصرية.
وتجدر الإشارة إلى أن مناورات “بحر الصداقة” بدأت لأول مرة عام 2009 في مياه المتوسط، واستمرت سنويًا حتى عام 2013، قبل أن تتوقف بسبب توتر العلاقات السياسية بين القاهرة وأنقرة.
ويُنظَر إلى استئنافها كمؤشر على تحسن ملموس في العلاقات الثنائية، ورغبة مشتركة في تعزيز التعاون الأمني والدفاعي في منطقة شرق المتوسط.
وفي الوقت نفسه، حذر محلل إسرائيلي مما ادعاه بصورة كاذبة من تحركات مصر “على الجانبين مع تركيا وحماس”، في الوقت الذي تلعب فيه دور الوسيط لحل أزمة الحرب في غزة.
وعلّق المحلل الإسرائيلي مردخاي كيدار، وهو باحث إسرائيلي في الثقافة العربية، على الدور المصري في المنطقة، وإعلانها عن مناورات عسكرية مع تركيا، أن “على مصر أن تحسم موقفها، وهل هي مع إسرائيل أم مع حماس؟”.
وبصلافة قال كيدار: “نتوقع من مصر أن تكون إما معنا أو ضدنا، لا يمكنها أن تجلس على الجدار، رِجل هنا ورِجل هناك، تساند حماس من جانب، وتساعد إسرائيل في المفاوضات لإطلاق سراح المخطوفين من جانب آخر”.
وأضاف كيدار: “نعم، تلعب مصر دور الوسيط، لكن في الوقت نفسه، هناك اتهامات باستمرار تهريب الأسلحة والمركبات من الأراضي المصرية إلى غزة. لا يمكن إمساك العصا من طرفيها، ويجب على مصر أن تتخذ قرارًا واضحًا، هل هي مع الإرهاب الحمساوي أم مع السلام الإسرائيلي؟، وحديثي هنا عام، ولا يقتصر فقط على ما يتعلق بالحرب”.
ومن الواضح أن إسرائيل تغلي، وتشعر النخبة الإسرائيلية بالغضب الشديد من قدرة مصر على إدارة معركة شديدة التعقيد بهدوء منقطع النظير، وأعصاب باردة سواء في رفض التهجير، وإفشال مخطط ترامب ونتنياهو لابتلاع غزة، والمساهمة بقوة في إقناع عواصم وشخصيات وازنة مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن هذه لحظة “الاعتراف التاريخي” بدولة فلسطين.
ولقد أحدثت زيارة ماكرون برفقة الرئيس السيسي للجرحى الفلسطينيين في العريش أثرًا بالغًا في قيام فرنسا بقيادة الجهد الدولي لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ونزلت القاهرة بكل ثقلها خلف حملة دولية لإدانة الإبادة الجماعية من قِبل دولة الاحتلال، واللعب بتناغم مع الدول العربية والإسلامية، وأصدقاء القاهرة لعزل إسرائيل.
ومن المدهش هو كيف نجحت مؤسسات الدولة المصرية العميقة في التعامل بواقعية ومرونة، و”بصبر إستراتيجي”، وفي ظل غليان في الساحة الداخلية والعربية، وحملات تحريض غير مسبوقة ضد القاهرة. والأهم أنها تمكنت من إحداث استدارة كاملة في موقف تركيا، وصولًا لقناعة تركية مستقرة بحتمية “التنسيق والتعاون” مع الدولة المصرية.
وبدلًا من التورط في مواجهة مع القاهرة، اختار أردوغان والدولة العميقة في تركيا “الشراكة الإستراتيجية” مع مصر.
ولقد قدرت مؤسسات الدولة التركية لحكومة مصر أنها لم تُبرِم أي اتفاقات فيما يتعلق باحتياطيات غاز المتوسط على حساب تركيا رغم “الإغراءات”، وبالرغم من شدة الخلاف مع أنقرة وقتها، فلقد انتظرت القاهرة أن تُعيد تركيا حساباتها، وأحسب أن مصر وتركيا قد ربحا معًا، والآن نشهد مشاورات منتظمة، وتنسيقًا مستمرًا بين القيادتَين، ومناورات وتصنيعًا عسكريًا مشتركًا.
وكالعادة، القاهرة لا تحب الصخب في الأمور المتعلقة بأمنها القومي، ولا تذهب إلى التصريح إذا كان التلميح يكفي. وهي ليست بحاجة للهرولة تجاه الدولة العظمى، والمُمسكة بعنف بالنظام الدولي، ولا تفتعل مشاكل مع سيد البيت الأبيض، بل تدير أوراقها بدبلوماسية وحنكة، وتُفشِل المشاريع الجامحة، وترفض تصفية القضية الفلسطينية، وتعرف أنها تقف في الجانب الصحيح من التاريخ.
ويبقى أن شراكة مصر وتركيا سوف تُحدث تغييرات جوهرية، وتحولات في المعادلات الإستراتيجية، وينتظر القوتَين الحضاريتَين دورٌ كبير في الحفاظ على أمن واستقرار الأمتَين العربية والإسلامية، وهما الآن بين أيديهما أربع قضايا عاجلة هي: غزة، والدولة الفلسطينية، وسوريا، والسودان، وليبيا.
وأحسب أن القاهرة وأنقرة تملكان العديد من الأوراق، وبمزيد من التنسيق والتخفف من حقائب الماضي الثقيلة، والبناء بقوة على الثقة المتنامية، سوف نشهد “انفراجات كبيرة” في ملفات مهمة.
ولحظتها سوف تتعمق مخاوف إسرائيل بما يكفي لردعها عن غطرستها وتوحشها. وأغلب الظن نحن نشهد بداية الشراكة بين القاهرة وأنقرة، وعلى الآخرين أن يستعدوا لعودة قوتين توقف التاريخ معهما كثيرًا في رحلته عبر الزمن.