2021 “سنة الوداع” .. اللبنانيون يودّعون منقوشة الجبنة والدفء والحياة الماضية
يودع العالم بعد أيام سنة من عمره، ويودع اللبنانيون مئة سنة من تاريخ وطنهم وهويتهم التي بنوها على مر الأجيال ويودعون معها أسلوب عيشهم وركائز حياة كانت لهم يوماً. يودع اللبنانيون سنة 2021 ويكسرون خلفها جرة لا ليطردوا شرها كما اعتادوا أن يفعلوا، بل ليودعوا مع شظايا الفخار المكسور كل ما انكسر في حياتهم من عادات ألفوها وما تحطم في نفوسهم من أمل بالمستقبل. يودعون سنة مفصلية وضعت بأحداثها حداً بين حياة الرفاهية الماضية وحياة آتية تكاد لا تشبه الحياة.
كانت سنة 2019 سنة الثورة والأمل، وجاءت 2020 سنة كورونا والحجر لتحل سنة 2021 سنة الارتطام الكبير والانحدار نحو جهنم. سنة رفست بضربة من حافرها دلو اللبنانيين الذي امتلأ على مر السنين بآمالهم وأموالهم، بإنجازاتهم وافتخاراتهم، بعاداتهم وكل الـ show off الذي تميزوا به، الدلو المزغول الذي أضيفت إليه خيباتهم وشرور سلطتهم وفساد مسؤوليهم. ولو كان لعلماء الفلك والمنجمين أن يطلقوا عليها عنواناً لأسموها “سنة الوداع”
أحبة غابوا وسيولة ضاعت. على أرض المطار ودع اللبنانيون نتفاً من قلوبهم، ودعوا أبناء لهم حملوا خيبتهم وقرفهم من بلد حلموا بمستقبل فيه فأمات فيهم الأمل، وتشردوا في بلدان العالم يدرسون يعملون يسوحون ويعيشون، لم تنج عائلة من حرقة الوداع الصعب في باحة المطار ولم ينأ مهاجر عن دموع الحسرة والشوق المسبق الى أهل وأحبة ورفاق وذكريات. أكبر عدد من المهاجرين شهدته هذه السنة وإذا صحت الأرقام يمكن القول أن حوالى الثمانين ألف مواطن تركوا لبنان لينغرسوا في أراض جديدة تنبت لهم فيها مع الأيام جذور تشتد لتصبح أقوى من جذور هشة زعزعتها أزمات لبنان المتلاحقة.
ودعوا أحبة لهم قضوا ” فقعاً” وحسرة وألما مما آلت إليه حال لبنان فغادروا تاركين الأحياء يمتهنون حرفة الوداع بشكل شبه يومي.
وبين زواريب المصارف وتعاميم مصرف لبنان وسياسات الدولة المالية ودّع اللبنانيون ليرتهم الى الأبد وأقاموا لها مجالس عزاء في كل بيت فرغت خزائنه من المؤونة وخلا براده من اللحوم والخبز والأجبان….ودّعوا مدّخراتهم بالليرة اللبنانية التي لم تعد تكفيهم لشراء مؤونة شهر من المحارم الورقية وورق التواليت. ودعوا السيولة التي كانت تجري بين أصابعهم ويلعبون بها لعباً ولوّحوا من بعيد لدولاراتهم المحفوظة في البنوك، تلك الدولارات التي تشاطروا وحولوها عملة صعبة حين بدأت تباشير الأزمة تلوح في الأفق او هربوها من بلدان اغتربوا فيها ليحفظوها في بنوك الجنة المصرفية اللبنانية فإذا بالتعاميم المصرفية المتتابعة تحولها الى “شم ولا تذوق”.
ودّعوا التعويض الذي شقوا العمر كله ليكون سنداً لهم في أواخر العمر فإذا بليراته تطير وكأنها لم تكن يوماً ويطير معها أمان الشيخوخة وأحلام العمر الثالث. ومن عوّل على معاش تقاعدي يكمل به العمر وجده يقصف له عمره حرقة وغيظاً وفقراً وتعتيراً.
بين رفاهية الماضي وتقشف الحاضر
سنة 2021 قال اللبنانيون، أغنياء ومتوسطو الحال وفقراء، وداعاً لأسلوب عيش لطالما نعموا بخيراته وملذاته وحتى بعاداته اليومية البسيطة، أسلوب عيش كان العالم يحسدهم عليه لا بل يحذرهم منه. ودعوا عاملات المنازل والخدم في البيوت ومعهم ملايين الدولارات التي كانت تخرج نحو بلدان كانوا يتباهون بأنهم أفضل منها. ودّعوا السفرات والرحلات السياحية والعطل في باريس وتركيا وشرم الشيخ وودعوا المشاوير البعيدة والكزدرة على طرقات لبنان الجبلية ورحلات البوسطة الترفيهية الى “نهر العاصي” و”بوابة فاطمة “، وجمعوا نذوراتهم الى “مار شربل والقديسة رفقا والحرديني وسيدة لبنان” ليفوها كلها في مشوار واحد، وكادوا يودعون استخدام السيارة إلا للضرورة القصوى…
ودّع شعب لبنان الزيارات العائلية وكيلو البقلاوة وقالب الغاتو يحملونه معهم الى الأهل و”التانتات” وبحسرة ودعوا المشاوي والجمعات العائلية حول المنقل أيام الآحاد والسفر الممدودة في الأعياد والمناسبات واختصروا اللقاءات الى بضع كلمات ومعايدات وصور عبر الواتساب، وتحججوا بالتباعد الاجتماعي ليتجنبوا زيارات التعزية والمواساة بالحزن ويقوا أنفسهم من مشوار الى الضيعة للمشاركة بالدفن او الجناز يستهلك صفيحة بنزين.
مع حلول شتاء 2021 نعى اللبنانيون ببالغ الأسى وسائل التدفئة وودعوا الشوفاج والوجاق ودفاية الكهربا والغاز وكان الآسفون التيار الكهربائي، وصاحب المولد، وصفيحة المازوت وسجّل التاريخ أنه في هذه السنة أمضى أطفال لبنان وشيوخه وعائلاته شتاءهم يرتجفون من البرد ونار أسعار المازوت والمولّد تكويهم.
وداعاً للحوم والحبوب والخضار
تخلى اللبنانيون لا عن رفاهية كانت لهم بل عن حقوق كفلتها كل قوانين العالم. تخلوا عن حقهم بمياه شرب نظيفة وقالوا وداعاً لمياه الشرب والقضي التي كانت تصل الى خزانات البيوت فإذا بشح المازوت وفشل السدود يمنعها عنهم ويجبرهم على توديعها واستبدالها بسيترنات مياه نتنة تُفرض عليهم. قالوا وداعاً للحمام الصباحي والاسترخاء في المغطس مساء، وضبطوا تفلت “السيفون” و”تنقيط ” الحنفيات ليتحكموا بمصروف مياه باتت سلعة نادرة ومكلفة في بيوتهم.
ودع اللبنانيون “صحاحير” البطاطا وصناديق البندورة والتفاح و”أقفاص” الخس والبقدونس و”أقراط” الموز، فتلك معايير الأيام الخوالي، وصاروا في 2021 يكتفون بالكيلو ونصف الكيلو او بالحبة والضمة. بل إن ثمة عائلات استغنت عن الفاكهة ومعظم أصناف الخضار على موائدها الفقيرة وراحت تفتش بين بقايا أسواق الخضار ومحلاتها عن فضلات عفنة تشكل “طبخة” تسد بها رمق الصغار…
وكاد الفقراء يودعون “ربطات” الخبز التي ما انفك وزنها يقل وسعرها يزداد وما عادوا يعرفون ماذا يأكلون او أية “لفة” يحضرون لأولادهم ليحملوها معهم الى المدرسة أو الشارع أو اي حليب أطفال يرضعونهم كما قالت إحدى زوجات العسكريين، بعد أن منعوا عنهم كل أصناف السكاكر والحلويات…
أما من كانوا فئات متوسطة فودّعوا الشوكولا الذي رافق سنين طفولتهم ودّعوا الكادبوري والغالاكسي والمارس والسنيكرز وقالوا باي باي للكرواسان الصباحي باللوز او بالشوكولا والصعتر، وبقلب مكسور شيعوا منقوشة الجبنة والكشك، وأكواب القهوة الأميركية في الكافيهات وربما يودعون قريباً جلسات الأركيلة في المقاهي كما ودعوا من قبلها “قعدات” المطاعم والمازة والمشاوي واللحم النيء…
قد يقول البعض إن اللبنانيين كانوا “بطرانين” يعيشون فوق طاقتهم وما عادوا يكتفون بالجبنة والزيتونة مثل ما اعتادوا في قراهم منذ عشرات السنين، وصاروا لا يرضون بغير السومون والسوشي والمارون غلاسيه والميرينغ والماكارون فإذا بسنة 2021 تعيدهم الى حجمهم الطبيعي وتمنع عنهم لا هذه الملذات فحسب بل تشحدهم حتى الجبنة والزيتونة وتجبرهم على توديع البري والروكفور والقشقوان والحلوم ولا تترك لهم إلا العكاوي التشيكي وجبنة الفيتا التي لا تمت الى الجبنة بصلة بل هي محضّر غذائي مصنوع من الزيوت. اما الزيتونة فصارت تباع بالحبة بعد أن وصل سعر الكيلو الى ما وصل إليه وودع اللبنانيون الخوابي والمراطبين ومعها “تنك” زيت الزيتون وغالونات زيت القلي ليكتفوا بقناني مجهولة الإسماء والمصادر والمكونات…
حتى الحمص والعدس والفول وأكياس البازيلا المجلدة والسبانخ المفروم و”مجامع” الطحينة وعلب الحلاوة صارت في بيوت اللبنانيين عملة نادرة واضطر كثر لتوديعها بعد أن وصل سعر كيلو الحمص الى 40000 والطحينة الى160000 وسعر كيس البامية المجلدة الى 50000. لم يتبق لهؤلاء من الحبوب التي كانت مسامير الركب وأكل الرجال إلا بضعة أكياس بسيطة وزعتها الجمعيات الخيرية إعاشات عليهم ولا يزالون يقتاتون من خيراتها…
أما اللحوم فصارت “أثراً بعد عين” في حياة اللبنانيين وصارت طبخاتهم بمعظمها “قاطعة” وتحولوا كلهم نباتيين ومن يمتلك القلب القوي لشراء قطعة الفيليه أو الفوفيليه والكستلاتة فيجد نفسه مضطراً لحفظها في خزنة البيت لا براده. وبدأت تطل على شعب لبنان الجائع بين الحين والآخر لحوم واسماك مجهولة المصادر، “محيّرة” اللون والطعم لتكون البديل عن لحوم غابت وأسعار انقرض.
صحة منسية وأدوية غائبة
ومع اللحوم والأجبان والحليب والألبان والحلويات والمخبوزات ودع اللبنانيون ما اعتادوا دوماً أن يدعوا به لمن يحبونه وهو الصحة. فنسيت معظم السيدات إجراء فحوصات الثدي وتجاهل الرجال فحوصاتهم الدورية وما عاد اللبناني المسرسب او الفهيم بأمور الصحة يهرع الى الطبيب كلما أحس بوخزة في صدره او ألم في ركبته ولا عاد الأطباء يجرؤون على وصف صورة رنين مغناطيسي لمن يعاني الماً في وركه او فحوصات عامة لمن يشعر بالدوار… صارت الطبابة لوكس والدخول الى المستشفى عبء ثقيل والتداوي وجهة نظر… وأدوية الـ Counter التي تباع بلا وصفة كالبنادول والفيتامين سي وأدوية الإسهال وأخواتهم صارت في 2021 لزوم ما لا يلزم أما أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية فكادت تغيب عن المرضى لولا تدخل أهل الخير والجمعيات.
وكما ودع اللبنانيون الطبيب والصيدلي (والداية بعد أن تضاءل عدد المواليد الجدد) ودّعوا أيضاً السمكري والكهربجي ومن يصلح البراد والغسالة بعد ان بات هؤلاء يصرون على القبض بالدولار وصارت هواية صاحب البيت “الحرتقة” علّه بمواهبه المستورة يصلح ما أفسده الدهر وينقذ ما ضنت به الجيوب.
وكما ودع اللبنانيون الغاليريات ومحلات الأدوات الكهربائية ومحلات الثياب والأحذية المستوردة وحتى الـ outlet التي كانت تبيع بالرخص وصار رخصها بالدولار ناراً كاوية، ودعوا كذلك الايفون 13 والبروماكس والغالاكسي نوت 20 والغالاكسي 21 ألترا بعد أن كانوا من أوائل من يقتنون الهواتف الذكية عند نزولها، وودعوا السيارات الجديدة من الشركات وتراجع مبيعها وفق إحصاءات جمعية مستوردي السيارات% 28،1 في الأشهر العشرة الأولى من سنة 2021.
باختصار، طوى اللبنانيون صفحة من حياتهم اتسمت بالرفاهية وحلاوة العيش وتحضروا لاستقبال صفحات سوداء لكنهم رغم كل شيء لم يفقدوا الأمل ومع إطلالة العام 2022يدعون من قلب مقروح: ” متل ما ودعنا نلاقي”.