هل ينجح تحالف تركيا – الشرع في تغيير قواعد اللعبة؟

كتب إسلام أوزكان, في “الأخبار” :
يُعدّ التحوّل السياسي لزعيم «هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، حالةً مهمة في ديناميكيات القوى في المنطقة. فرغم ماضيه المرتبط بتنظيمَي «القاعدة» و«داعش»، إلا أنّ الشرع دخل في عملية بناء زعامة جديدة في سوريا، وهو ما يفتح له مجالاً واسعاً للمناورة الديبلوماسية والسياسية تمتدّ من الرياض إلى أنقرة.
يطرح الزعيم السوري نموذجاً جديداً للحكم في البلد، إذ يتحدّث عن مؤتمر وطني، وإعلان دستوري، وإدارة خاضعة للمساءلة، وجيش محترف.
ومع ذلك، فإنّ بعض الممارسات لـ«هيئة تحرير الشام» على الأرض يبدو وكأنها تعكس تناقضاً مع هذه الرؤية، إذ تأتي بعض الأخبار بشأن ارتكاب عمليات إعدام ميدانية وعمليات خطف وتعذيب في مناطق مثل حماة وحمص واللاذقية وطرطوس، من شأنها إثارة بعض الأسئلة حول مستقبل البلد.
دمشق تحت ضغوط تركية
في الواقع، رغم أن سوريا تواجه تحديات أكثر إلحاحاً، إلا أنّ أحمد الشرع وجد نفسه مضطراً، تحت ضغط تركيا، إلى وضع مسألة نزع سلاح «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد) على رأس أولويات جدول أعماله. ورغم توافقه مع أنقرة حول ضرورة تخلي «قسد» عن سلاحها، إلا أن الشرع يبدو أنه يفضّل تحقيق ذلك عبر المفاوضات ووفقاً لجدول زمني محدد. أسلوبه في تصريحاته المتعلقة بهذا الملف، وكذلك خلال لقاءاته مع مظلوم عبدي، يعكس اختلافه عن الموقف التركي في هذا الشأن.
ومن ناحية أخرى، من المعروف أن جميع الفصائل المسلحة لم تسلّم أسلحتها بعد، إذ لا يزال «الجيش الوطني» المدعوم من تركيا يحتفظ بسلاحه، بل إنه مستمر في عملياته العسكرية شمالي سوريا. فبعد انتزاعه مدينة منبج من يد «وحدات حماية الشعب» الكردية، لا يزال «الجيش الوطني» ينفذ عمليات ضد القوات الكردية. في هذا السياق يمكن فهم إصرار الشرع على نزع سلاح «قسد»؛ كدليل على الضغوط التي تمارسها أنقرة على الحكومة الجديدة في سوريا.
ومع أن موقف الشرع تجاه هذا الملف لا يزال غير واضح تماماً، إلا أن هناك بعض المؤشرات التي قد ترسم ملامح خريطة الطريق التي سينتهجها؛ فرغم امتنانه للدعم التركي الذي أوصله إلى سدّة الحكم، إلا أن تركيا ليست اللاعب الإقليمي الوحيد الذي يتعيّن عليه مراعاته. إذ يسعى الشرع إلى الحفاظ على توازن معيّن في علاقاته مع الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وهو أمر لم يعد خافياً على أحد. فمن المعروف أن دمشق تسعى جاهدة إلى استرضاء هذه الدول، وخاصة أنها ترى في الغرب مفتاحاً للخروج من أزمتها الاقتصادية الخانقة، ولا تريد أن تخاطر بإغضابه وهي في هذا الوضع الصعب.
رغم امتنانه للدعم التركي الذي أوصله إلى سدّة الحكم، إلا أن تركيا ليست اللاعب الإقليمي الوحيد الذي يتعيّن عليه مراعاته. إذ يسعى الشرع إلى الحفاظ على توازن معيّن في علاقاته مع الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة
وهذا بلا شك موقف حساس أشبه بالسير على حافة السكين، إذ إن محاولة إرضاء الطرفين في آن واحد ليست بالمهمة السهلة. ومع ذلك، فإنّ إيجاد صيغة توافقية قد يمنح الشرع مساحة أكبر للمناورة. في هذا السياق، يبدو أن المسألة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمفاوضات الجارية بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب إردوغان. رغم أن ترامب شخصية صعبة، إلا أنه معروف بحبّه لعقد الصفقات. فإذا قبل الطرفان بفكرة التفاوض، فهذا مؤشر على أن التوصل إلى اتفاق أمر ممكن.
وجدير بالذكر أن بعض التقارير في الصحافة الأميركية أفادت بأن ترامب أبلغ إردوغان باستعداده للانسحاب من شمالي سوريا إذا وافق الأخير على تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني.
وإذا كان هذا الخبر صحيحاً، فإن مفتاح الحل قد يكمن في عودة العلاقات بين تركيا وإسرائيل إلى سابق عهدها. وفي الواقع، لا يمكن الادعاء بأن أنقرة تعيش حالة من القطيعة الكاملة مع الكيان الصهيوني، فالعلاقات التجارية غير المباشرة بين الطرفين لا تزال قائمة حيث تزور بعض السفن الإسرائيلية، أو السفن الأجنبية التي تحمل أسلحة خطيرة، الموانئَ التركية، كما إن إردوغان التزم الصمت تجاه تصريحات ترامب الأخيرة بشأن غزة. بناءً على ذلك، قد لا يكون من الخيال توقّع أن تشهد المرحلة المقبلة تقارباً أكبر بين تركيا والغرب، إلى جانب تعزيز التعاون التركي الإسرائيلي في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار.
دور تركيا والشراكة الإستراتيجية
في الأثناء، أعلنت تركيا نيتها إقامة شراكة إستراتيجية مع الإدارة الجديدة. وقد وصف إردوغان اللقاءات مع أحمد الشرع بأنها تأتي في إطار «الشراكة الإستراتيجية»، وهو ما يرتبط مباشرة بسعي تركيا إلى توسيع وجودها في سوريا. وتشمل هذه الإستراتيجية إنشاء قواعد عسكرية تركية في سوريا، فتح المجال الجوي السوري للطائرات التركية، التنسيق لإضعاف «وحدات حماية الشعب» الكردي ومنح الشركات التركية دوراً رئيسياً في إعادة الإعمار.
وبحسب الأنباء الواردة، تخطّط تركيا لإنشاء قواعد عسكرية في مناطق إستراتيجية مثل قاعدة «تي 4» الجوية في تدمر. ويشير اختيار هذه المواقع إلى أن تركيا تسعى إلى تثبيت وجودها بالقرب من مصادر الطاقة ولتعزيز موقفها في محاربة تنظيم «داعش». إنّ حقيقة أن المناطق التي تريد أنقرة إقامة قواعد عسكرية فيها هي، من جهة، مناطق من المستبعد فيها المواجهة المباشرة مع إسرائيل، ومن جهة أخرى هي مناطق قريبة من المناطق الكردية وموارد الطاقة ذات الأهمية الحيوية للبلاد، تُظهر أنّ اختيار مواقع القواعد لا يتم بشكل عشوائي، بل بناء على تفضيل إستراتيجي.
توازنات إقليمية وقضية «قسد»
يشكّل السعي التركي إلى تفكيك «قسد» محوراً رئيسياً في التعاون بين أنقرة ودمشق. إلا أن موقف الولايات المتحدة في المنطقة يظل عاملاً مؤثراً في هذه العملية. وبينما يلوح في الأفق احتمال انسحاب القوات الأميركية من سوريا، فإنّ تركيا قد تسعى إلى طرح خطة أمنية بديلة عبر التحالف مع الجولاني.
تمثّل قضية «قسد» صداعاً لتركيا من جميع الجوانب. بمعنى أن تركيا مهووسة بهذه القضية التي تعدّ من أهمّ العقبات أمام تطوير سياسة عقلانية في سوريا. وحتى الآن، فإنّ تفضيل تركيا للأساليب العسكرية بدلاً من السلام والمفاوضات هو أمر قد يؤدي إلى إساءة علاقتها مع الدول الغربية على رأسها الولايات المتحدة.
حماية الولايات المتحدة لـ«قسد» هو ما دفع إردوغان إلى القول إنهم سيقدّمون كل ما لديهم من إسهامات لدمشق للتعامل مع «قسد»، مؤكداً أن هناك توافقاً تامّاً في الآراء. ولكن كيف ستفعل قيادة «هيئة تحرير الشام» ما لا تستطع تركيا فعله بسبب الموقف الأميركي؟ أو ربما هناك حل وسط في ذهن المسؤولين الأتراك ولكن ليس في صريح لغتهم.
في هذا السياق، يمكن لتركيا، بالتنسيق مع الأردن والعراق وسوريا، أن تشكّل آلية أمنية إقليمية تهدف إلى إنهاء دور «قسد». ووفقاً للتسريبات، يتضمّن العرض التركي للغرب: تولّي الشركاء الإقليميين محاربة «داعش»؛ تسليم السجون التي تضم عناصر «داعش» للحكومة السورية؛ إخراج «قسد» من المشهد السياسي والإداري. إضافة إلى تلك الوعود، فهم يعتقدون أنهم إذا أثبتوا أن لديهم القدرة على أن يكونوا بديلاً لإيران في المنطقة، فسوف تزيد فرصهم في أن تقبلهم إدارة ترامب. وإذا وافقت الولايات المتحدة على هذه الخطة، فتعتقد تركيا أنها سوف تتمكّن من تعزيز نفوذها العسكري والسياسي في سوريا.
من ناحية أخرى، يعكس التحوّل السياسي لأحمد الشرع محاولة تركيا لإضفاء الشرعية على وجودها في سوريا. وبينما تسعى إدارة إردوغان إلى إعادة تشكيل المشهد السوري عبر دعم الحكم الجديد في دمشق، فإنّ ردود أفعال القوى الإقليمية والدولية تجاه هذه الإستراتيجية ستحدّد مستقبلها. ومع انتظار إعلان ترامب عن سياسته في سوريا، يبقى مستقبل نفوذ تركيا والشرع في المنطقة معلقاً على تلك القرارات.