رأي

هل لدى البرهان “البرهان”؟

كتب خالد اليماني في إندبندنت بالعربي.

قيل كثير عن أهداف زيارة التشاور التي أجراها رئيس مجلس السيادة في السودان للقاهرة، الثلاثاء الماضي، وأبعاد هذا التحرك وتوقيته في أجواء من الحديث عن خطة سلام سيقدمها الرئيس المصري، وما زالت عناصرها تختمر في بحث عن مواءمة توفيقية بين مبادرة القاهرة لدول جوار السودان، والمبادرة السعودية – الأميركية، ومبادرة “إيغاد”، والحوار الذي سبق الحرب ونتائجه المتوافق عليها من كل الأطراف.

شكل خروج البرهان من مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية بوسط الخرطوم خطوة شجاعة تنبئ بوضع مريح لقيادة الجيش بعد سقوط سردية أحكام ميليشيات “الدعم السريع” سيطرتها على العاصمة السودانية. وما إن تأكد خروج البرهان حتى سارعت الآلة الدعائية لميليشيات حميدتي للتأكيد مرة على أنه هرب لينجو بجلده من مصير محتوم، أو مرة أخرى بأن الخروج جاء إثر تفاهمات إقليمية ودولية لتسليمه السلطة وفق صفقة تمت بترتيب مع “الدعم السريع” لتنفيذ رؤية النقاط الـ10 التي قدمها حميدتي للانتقال إلى حكم مدني ديمقراطي اتحادي، ومؤسسة عسكرية واحدة ومهنية، وكأنه نسي أنه هو الذي رفضها خلال جولة الحوار الحاسمة قبل نشوب الحرب، وأصر على بقاء السودان بجيشين.

في خطابه الحماسي أمام جنوده بالقاعدة البحرية في بورتسودان أكد البرهان أن خروجه كان بترتيب من رفاقه في الجيش، ورفض وجود أي صفقة مع أي طرف بمن فيهم الإسلاميون الذين يحاول “الدعم السريع” إلصاق الجيش بهم، وهو خطاب يكرره حميدتي وبعض قيادات المعارضة، متهمين الجيش بأنه أداة من أدوات الإسلاميين، ليجدد البرهان عدم وجود علاقة بين الجيش والإسلاميين، وعدم وجود أي اتصال مباشر أو غير مباشر مع ميليشيات “الدعم السريع” إلا تلك التي جرت في جدة عبر الوساطة السعودية – الأميركية.

وما عدا عن إبداء مصر استعدادها لتقديم تصور للسلام في السودان، وترحيب البرهان بالمبادرة المصرية، وتأكيد السودان المستمر أن القاهرة هي بيت الحل السوداني لما يجمع بين أهل وادي النيل من أواصر قربى تمتد عميقاً في التاريخ. كذلك لمحت التحليلات الإعلامية لقرب زيارة يقوم بها البرهان للسعودية من واقع أنه في نهاية المطاف، فالقاهرة والرياض تمتلكان القدرة على تيسير الحل في الخرطوم، وتحقيق إجماع سوداني لكسر دورة العنف التي في حال استمرارها سيدخل السودان والسودانيون والدول المجاورة في ثقب أسود بلا قرار.

ما يهم في هذه اللحظة التاريخية لتفاقم الصراع العدمي هو أن البرهان خرج يسعى إلى إنهاء الحرب، وإيقاف الاقتتال وكلفته الباهظة على السودانيين، مؤكداً أن الحرب الجارية تهدد بتفتيت البلاد ويجب وقفها سريعاً، بالتالي وقف قائمة طويلة من الجرائم ضد الإنسانية مثل القتل والنهب والاغتصابات والتهجير القسري التي تحقق فيها الجنائية الدولية وتقوم بها ميليشيات حميدتي اليوم، الجنجويد سابقاً، مثلما صنعت في دارفور إبان حكم البشير.

ويقول تقرير صدر أخيراً عن مجموعة الأزمات الدولية إن الدولة السودانية تواجه خطر السقوط مع احتمالات ظهور حركات متشددة شبيهة بالظاهرة الصومالية.

الرهان على دبلوماسية البرهان

أدى الصراع المستمر منذ ما يقرب من خمسة أشهر إلى تحويل العاصمة الخرطوم لساحة معركة فوق رؤوس المدنيين، وبين الأحياء مع عدم تمكن أي من الطرفين فرض سيطرته على المدينة، وتحول الحرب إلى سجال لا يمكن أن يكون فيها منتصر.

وفي دارفور الغربية التي كانت في الماضي مسرحاً لحملة إبادة جماعية من قبل ميليشيات الجنجويد، تجدد الصراع أخيراً باتجاه عنف عرقي، حيث تقوم ميليشيات “الدعم السريع” وميليشيات عربية تابعة لها بمهاجمة المجموعات العرقية الأفريقية، وذلك وفق تقارير الأمم المتحدة.

وبمعزل عن خطاب الحرب الناري وضروراته أمام منتسبي المؤسسة العسكرية السودانية في بورتسودان، يمكن النظر إلى تصريحات البرهان في القاهرة عقب اللقاء بالرئيس المصري لمعرفة رؤية القوات المسلحة للحل السلمي في السودان، والمتمثلة بإنهاء الحرب، وعدم سعي الجيش إلى حكم البلاد، والسعي إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة يستطيع فيها الشعب السوداني أن يقرر ما يريده عقب فترة انتقالية حقيقية وقصيرة.

تأتي جولة البرهان لتؤكد حضور الدولة السودانية، وأنه لن يكون بمقدور أحد تفكيكها، ولا الحديث نيابة عنها، واستعدادها للبناء على الجهود الدبلوماسية المتعددة لإنهاء العنف في السودان، وتحديداً جهود وقف إطلاق النار التي توسطت فيها واشنطن والرياض. كما تتواكب الجهود السودانية الرسمية مع جهود مصر التي استضافت في يوليو (تموز) الماضي جميع الدول المجاورة للسودان للبحث في سياقات الحل، في تواصل مع الجهود السعودية والأميركية التي سبقتها.

وتتمتع مصر بعلاقات طويلة الأمد مع الجيش السوداني وكبار الجنرالات فيه، ويعول السودانيون بجميع مشاربهم على مصر والسعودية لتقديم خطة لوقف إطلاق النار، والقدرة على إخراج حميدتي من الخرطوم، وتوفير أجواء حقيقة للسلام المنتظر في السودان، وبنظرهم ما لم تكن هاتان الدولتان قادرتين على القيام بذلك في هذه اللحظة التاريخية فلن يستطيع أحد وقف نزف الدم السوداني العبثي، رغم إدراك القاهرة والرياض لحساسية الصراع السوداني، بخاصة أن ميليشيات “الدعم السريع” مدعومة بقوة من دولة عربية غنية ومن ميليشيات “فاغنر” الروسية.

ومن موقعه في بورتسودان يسعى البرهان إلى تشكيل حكومة تكنوقراط مصغرة تحظى بدعم إقليمي ودولي وتبتعد عن الولاءات السياسية والاستقطاب، لتحمل مسؤولية إدارة البلاد، وتقديم الخدمات الرئيسة للسودانيين في مناطق البلاد المختلفة.

وفي الوقت الذي يرى فيه المطلعون على الشأن السوداني أن خروج البرهان من الخرطوم يمتلك أهمية استثنائية، فهم يرون أهمية استمرار المشاورات لوقف الحرب من خلال زيارة البرهان المرتقبة للسعودية، وربما إمكانية أن تليها زيارات لكل من جنوب السودان وإثيوبيا، والعودة مجدداً إلى القاهرة قبل توجهه إلى الأمم المتحدة للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، حينما ستكون لديه رؤية شاملة للحل ليعرضها على المجتمع الدولي مسنودة بإجماع عربي.

خيارات شعرة معاوية

هل ينجح البرهان في هذه اللحظة التاريخية في إنقاذ بلاده من ويلات حرب طويلة لا تبقي ولا تذر وبحسب المراقبين لن تكون حتماً بين طرفين، بل ستدفع إلى تشظي السودان وظهور كافة أشكال العصابات والحركات المسلحة في مشاهد تنكيل ذاتي وتشريد وشتات مؤسفة؟ هل سينجح البرهان في التكفير عن الخطأ الذي ارتكبه حينما تحالف مع ميليشيات “الدعم السريع” في انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021؟

البرهان في حاجة اليوم إلى التحول إلى برهان الدولة، وليس المقاتل في الخرطوم، وأن يكون بوسعه رؤية صورة المشهد الكبير في السودان، ويقدم خطاباً سياسياً مغايراً ومتزناً وشفافاً باتجاه كافة القوى المدنية على حد سواء، فالمؤشرات تلمح بشكل الحل الذي يمكن التوصل إليه اليوم، والذي ينطلق من كسر العقبة التي فجرت الحرب، والمتمثلة في جيش مهني لا سياسي يبتعد عن شؤون الدولة المدنية، تكون بقايا “الدعم السريع” مدمجة في قوامه فوراً ليعاد تأهيلها.

فهل هي صحوة وطن تلك التي حركت البرهان؟ وإن كانت كذلك فسيحفظ له التاريخ شجاعته باتخاذ الخطوة الأولى لوأد الفتنة، وسيسجل له التاريخ والقوات المسلحة لسودان الغد بأحرف من نور حينما يكون قد غادر المشهد في سودان يعود لمكانته ودوره الكبير عربياً وأفريقياً ودولياً، يعيد لمّ شتات أبناء الوطن ليلتفوا حول فكرة العيش المشترك في وطنهم وفق ما يجمع عليه أهل السودان.

المهم أن دبلوماسية القمة عادت إلى الواجهة، وكما يقول عديد من المتابعين للشأن السوداني لأن غيابها أغوى دولاً مثل كينيا بالدعوة إلى التدخل العسكري في السودان. إن مؤشرات نهاية الحرب في السودان باتت في الأفق، وهي تستدعي تفاعلاً وتحركاً داخلياً وخارجياً لاستثمار نتائجها، وتحديداً الدور المأمول لمصر والسعودية، ما لم فإن السودان سيكون مرشحاً لحرب طويلة مثل الصومال واليمن، وربما أسوأ من ذلك بكثير.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى