رأي

هل فقد أكراد العراق الثقة وبدأ تهجيرهم أو هجرتهم؟

كتب سركيس نعوم في “النهار”: مستقبل أكراد العراق كتب عنه بحثاً صحافي كردي عراقي عمل ولا يزال يعمل صحافياً في وسائل إعلامية أميركية مهمة وهو يحضّر في الوقت نفسه لنيل الدكتوراه من جامعة جورج ميسون، ونشره له “معهد واشنطن” (واشنطن انستيتيوت) في الأسبوع الثاني من شهر كانون الأول الجاري. يبدو من قراءته أن الدافع الى كتابته وجود عدد كبير من أكراد بلاده أي العراق بين الساعين الى الهجرة الى أوروبا الغربية عبر الحدود البيلاروسية – البولندية من دول أخرى، واضطرار الجميع الى البقاء في العراء بين حدود الدولتين بعد توظيف بيلاروسيا هذه المشكلة لتصفية حساباتها كما حسابات راعيها وحاميها رئيس روسيا بوتين ليس مع بولندا بل مع حلف شمال الأطلسي والدولة الأقوى فيه الولايات المتحدة.
ماذا قال الصحافي الكردي العراقي واسمه سعيد يريفان عن هذا الموضوع؟ قال: “تحوّل المهاجرون العالقون في البرد القارس والقاتل أداةً جيوسياسية ساخنة تمكّن مينسك من انتزاع تنازلات من الاتحاد الأوروبي علماً أن آلافاً من المهاجرين أو بالأحرى الهاربين من الشرق الأوسط نجحوا في دخول بولندا من المعبر نفسه خلال الاثني عشر شهراً الماضية. لكن حظ هؤلاء كان سيئاً إذ علقوا بين البلدين الأمر الذي تسبّب بأزمة إنسانية مأساوية”.
ما الذي دفع أكراد العراق أو بعضهم الى اتخاذ قرار الهجرة من بلادهم ومنطقتهم المتمتعة بالحكم الذاتي أو بالأحرى الهروب منها وسط ظروف قاسية وصعبة الاحتمال؟ أجاب يريفان: “قمت برحلات ثلاث الى إقليم #كردستان، ولاحظت ان القيادة والشعب الكرديين يعبرون عن حس متنام من عدم اليقين حيال المستقبل جرّاء إعادة الولايات المتحدة تموضع قوّاتها العسكرية من الشرق الأوسط في اتجاه آسيا. يعكس ذلك ومن دون أي مغالاة انعدام ثقة في المستقبل ويحفّز بقوة الهجرة من الإقليم، ولا سيما بعد الخطاب الذي ألقاه بريت ماك غورك منسّق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط، الذي أكد فيه أمراً مهماً هو أن المصالح الاستراتيجية لأميركا لم تعد قائمة على بناء دولة في إقليم كردستان العراق. وعنى ذلك أن التزامها حماية حلفائها أصبح موضع شك كبير. طبيعي أن يثير ذلك قلق إقليم كردستان وخصوصاً بعد انتشار قلق دول “مجلس التعاون الخليجي” وسعيها الى التطبيع مع إسرائيل رداً على تغيّر متطوّر لأولويات واشنطن. يعني ذلك أن الإنجازات التي حققها الإقليم نفسه في أثناء تمتعه بحماية غربية، وهي حكم ذاتي وديموقراطية وإن مع بعض العيوب وبنية تحتية جيّدة واستقطاب استثمارات أجنبية، قد صارت مهدّدة في رأي الأكراد جرّاء تنامي اقتناع قياداتهم بأن العراق لم يعد ضمن أولويات الولايات المتحدة. أثار ذلك خشية هؤلاء من خسارة حماية الدول الغربية ومن أن يتركوا لمصيرهم في واحدة من أكثر المناطق الجيوسياسية غدراً وعدائية في الشرق الأوسط”.
في هذا المجال يُذكر أن إقليم كردستان ليس له منفذ بحري وهو محاط بدول مجاورة عدائية تسعى الى تقويض “الاستقلال” السياسي والاقتصادي والثقافي للأكراد. إذ في العراق تتمتع الميليشيات بنفوذ أكثر من الدولة والجيش معاً وسبق أن استهدفت الإقليم غير مرة. وليست الاعتداءات بطائرات مسيّرة على أربيل عاصمته في 11 أيلول 2021 والهجمات الصاروخية عليه في شباط الماضي إلا مؤشر على ما قد يواجهه الأكراد عندما تنسحب القوات الغربية من العراق. لذا فإن اختيار بعض الأكراد الهجرة من إقليمهم ليس مفاجئاً. علماً أن الذين يهجرون “بلادهم” ليسوا في ضائقة اقتصادية. فهم يبيعون كل ما يمتلكون للحصول على بضعة آلاف من الدولارات بغية دفع مصاريف الوصول الى بوابات الاتحاد الأوروبي، وذلك تأميناً لمستقبل عائلاتهم وأولادهم. وعندما سُئل أحد هؤلاء عن سبب إقدامه على المغامرة أجاب: “المستقبل غير واضح المعالم في بلادنا”. فضلاً عن أن الايمان بمستقبل الجيب الكردي باعتباره إقليماً مستقلاً ومستقراً قد تزعزع. وفضلاً عن تغلّب الخوف على الأمن فصارت الوظائف والمنازل والسيارات لا تعني شيئاً في ظل التهديد بعدم الاستقرار السياسي وتوابعه.
في أي حال لا تضر هجرة الأكراد موارد رأس المال البشري في إقليم كردستان فحسب، بل أثارت وتثير تحديات أمنية بين بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي الذي وضعته الظروف القاسية للمهاجرين أمام معضلة أخلاقية.
كيف يمكن حل هذه المشكلة؟ بإقدام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا على معالجة مسألة انعدام ثقة الأكراد في مستقبلهم بقرار يصدر عن مجلس الأمن ويتناول حماية إقليم كردستان من الاعتداءات الداخلية والخارجية على السواء ويرجّح أن تُقنع سياسة الضمانات إذا نُفذت العديد من الأكرد الراغبين في الهجرة بتجنب القيام بأحداث خطيرة للوصول الى أوروبا. وهناك إثباتات سابقة على فاعلية قرارات كالمطلوب اتخاذها اليوم. فقرار مجلس الأمن الرقم 688 الصادر عام 1991 وعد بحماية العراقيين المقموعين وأفسح أمام ملايين الأكراد في مجال العودة الى إقليمهم في العراق بعدما كانوا هربوا منه جرّاء القمع العسكري في بلادهم فهل تُقدم أميركا والاتحاد الأوروبي وروسيا على رعاية صدور قرار كهذا من مجلس الأمن؟ لا يبدو ذلك مرجّحاً ولا سيما في مرحلة تغيّر الدولة الأعظم والدول الكبرى الحليفة لها والمنافسة كما الدولة التي تسعى الى أن تصبح شريكة أميركا في زعامة العالم، وأيضاً في مرحلة تصميم الدول التي يشكّل الأكراد جزءاً مهماً من شعوبها الأصلية إذا جاز التعبير على التصدّي لإعطائهم حقوقهم الطبيعية رغم الاختلافات الكثيرة التي تفرقهم. يعني ذلك كله في النهاية أن عدم قبول الآخر المختلف أو الجماعة المختلفة في دول كثيرة في الشرق سيتسبّب دائماً بأمرين. الأول تعامل هذا الآخر مع أعداء وطنه ضد حكّامه وسالبي حريته. والثاني هو الهجرة أو بالأحرى التهجير المقنّع.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى