هل «الإنترنت» عدوَّة التقدم؟
كتب روس دوثات في صحيفة نيويورك تايمز.
من غير المعتاد أن تجد جرعة قوية من التشاؤم حول مستقبل التقدم التكنولوجي يطلقها أحد أكبر المتفائلين بالتكنولوجيا في العالم. ولكن إذا كنت تتبع الرأسمالي المغامر مارك أندرسن، على منصة «إكس»، لكنت رأيته يتداول على نطاق واسع هذا المقطع من تتمة رواية «جوراسيك بارك»، من تأليف مايكل كريشتون، لعام 1995، بعنوان «العالم المفقود»، حيث يحذّر د.إيان مالكولم، الذي يتمتع دائماً بالبصيرة المتقدة، من أن «الإنترنت» ستضع حداً للتقدم البشري.
يقول د.مالكوم في الرواية: «هذا يعني نهاية الابتكار. إن فكرة ربط العالم كله معاً هي الموت الجماعي. يعرف كل عالم أحياء أن المجموعات الصغيرة المنعزلة تتطور بوتيرة أسرع. يمكنك وضع ألف طائر على جزيرة في المحيط وسوف تتطور بسرعة كبيرة. تضع عشرة آلاف في قارة كبيرة وتطوُّرها يتباطأ… وكل شخص على الأرض يعرف أن الابتكار يحدث فقط في مجموعات صغيرة. ضعْ ثلاثة أشخاص في لجنة وقد ينجزون شيئاً ما. ولكن عشرة أشخاص يصبح الأمر أكثر صعوبة. ثلاثون شخصاً، لن يحدث شيء. ثلاثون مليوناً، يصبح مستحيلاً. وهذا هو تأثير وسائل الإعلام -فهي تمنع حدوث أي شيء. وسائل الإعلام المختلفة تُغرق التنوع. إنها تجعل كل مكان كما هو. في عالم وسائل الإعلام الجماهيرية، هناك «عدد أقل» من كل شيء باستثناء أفضل عشرة كتب، وتسجيلات، وأفلام، وأفكار. يشعر الناس بالقلق من فقدان تنوع الأنواع في الغابات المطيرة. ولكن ماذا عن التنوع الفكري – أهم الموارد لدينا؟ إنه يختفي بوتيرة أسرع من اختفاء الأشجار. ولكننا لم نكتشف ذلك بعد، لذلك نخطط الآن لوضع خمسة مليارات شخص معاً في الفضاء الإلكتروني. وسوف يتجمد النوع البشري بأسره… وسوف يفكر الجميع في الشيء في الوقت نفسه. التمَاثُل العالمي».
هذا الاقتباس عمره 29 عاماً، كُتب عندما كان عصر «الإنترنت» الحقيقي لا يزال مجرد بريق وامض في أعين آل غور.
مع استمرار النبوءات، فإن الأمر مثير للإعجاب إلى حد كبير -إذ إن هناك تنبؤات مالكوم الأكثر شهرة حول مدى سوء الأمور التي قد تحصل في مدينة ألعاب جون هاموند. الاقتباس لا يُصور كل شيء عن العصر الحالي (المزيد عن حدود النبوءة تتجمد في لحظة)، ولكنه تنبأ بالكثير: الأنماط الشائعة التي تبدو عالقة في التكرار؛ الموسيقيون والروائيون من القائمة الوسطى يختفون وسط هيمنة النجوم الكبار؛ والاهتمام المتضائل بالموسيقى الجديدة، إذ توجه الخوارزمية الجميع إلى فريق البيتلز؛ «العمر المتوسط» في كل شيء من الفن والهندسة المعمارية إلى ديكور الفنادق، وتصميم السيارات ومنشورات «إنستغرام».
بوسعك الزعم أن العالم تنبأ بالركود العظيم الذي حدده تايلر كوين عام 2011، وتباطؤ الإنتاجية والنمو الاقتصادي المخيِّب للآمال الذي أعقب طفرة «الإنترنت» الأولية في تسعينات القرن العشرين. ونستطيع أن نقول إنها تنبأت بالفكر الجمعي الآيديولوجي اللافت للنظر الذي اتسمت به الطبقة القيادية الغربية الليبرالية في أثناء الفترة نفسها، وآنذاك كان صعود «رجل دافوس»، ثم امتثال الطبقة النخبوية المتسارع في عصر اليقظة. وأخيراً، يمكنكم القول إنها تنبأت بالظاهرة اللافتة للنظر لانخفاض معدلات المواليد عالمياً، وليس فقط محلياً، في كل دولة ومنطقة تقريباً تأثرت بنسخة آيفون من الحداثة.
تعد هذه النقطة الأخيرة أساسية لتحديث أطروحة مالكوم-كريشتون التي قدمها مؤخراً روبن هانسون الأستاذ بجامعة «جورج ماسون». ففي مقالته لمنصة «كويليت»، يزعم أن العولمة والتجانس من الأسباب التي أدت إلى تقليص المنافسة الثقافية على النحو الذي وصفته فقرة «العالم المفقود» السالفة تقريباً. بدلاً من وجود مجموعة من النماذج الثقافية التي تتنافس بالطريقة التي تتبعها شركات القطاع الخاص وسرعان ما تتلاشى إذا لم تتكيف بنجاح، تعطينا العولمة ميلاً نحو «الثقافة الكلية» -وهي نماذج ثقافية قليلة واسعة النطاق، أو ربما في نهاية المطاف مجرد ثقافة عالمية أحادية. وهذا ينطوي على فوائد أولية ولكن له عيوب على المدى الطويل:
أسفرت القفزة الكبيرة الأخيرة في حجم الثقافات الكلية عن تعزيز الإبداع داخل الثقافة، وتعزيز السلام والتجارة والثروات سريعة النمو. ونتيجة لذلك، فإن ثقافاتنا الضخمة القليلة اليوم تعاني بدرجة أقل بكثير من المجاعة أو المرض أو الحرب. ولكن بسبب هذه التأثيرات، ينبغي لنا أن نتوقع الآن الحصول على قدر أقل كثيراً من الاختيار بين الثقافات، وبالتالي على قدر أقل من الإبداع على الأمد البعيد.
ليس الأمر أننا نتخلى عن الفرص المتاحة لتحسين ثقافاتنا الكلية فحسب. وقد يكون الاختيار أيضاً ضعيفاً للغاية -على الأقل في المدى القصير- بحيث لا يمكن إلغاء أخطاء الانجراف الثقافي. ألا ينبغي علينا أن نتوقع أن تنجرف الثقافات الكلية، عندما يكون الاختيار ضعيفاً، نحو الخلل الوظيفي تماماً كما تفعل الثقافات الراسخة؟
يزعم هانسون أن هذا النوع من الانجراف الثقافي غير المتكيف هو ما يحدث مع الخصوبة دون مستوى الإحلال. ولأسباب اجتماعية واقتصادية متنوعة، تجمع العالم المتقدم على نموذج إنجابي يؤدي بالفعل إلى الشيخوخة السكانية السريعة، ويمكن أن يؤدي -في حالة كوريا الجنوبية بوصفها مؤشراً أحمر وامضاً- إلى انهيار سكاني صريح. وكل هذا باستثناء ضمان تباطؤ التقدم التكنولوجي والاقتصادي، ولكنّ هانسون يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فيزعم أن تراجع عدد السكان قد يحوّل العالم إلى «ثقافات معزولة مثل المينونيين والأميش والحريديم»، والتي من خلال «التضاعف كل عقدين من الزمان»، كما يكتب: «النظر إلى المسار الصحيح لكي تحل محل حضارتنا الرئيسية في غضون بضعة قرون».
هو يرى في الأساس أن هذا سيناريو سقوط روما، حيث تلعب الأقليات الدينية المعزولة دور المسيحيين الأوائل، ويلعب بقيتنا دور النخب الرومانية المنحلة. ويشير هانسون إلى أنه من الصعب للغاية بالنسبة لثقافة أصبحت عالمية، ولكنها أيضاً غير قادرة على التكيف، الهروب من هذا النوع من المصير، أن تعود إلى الدينامية من دون المرور أولاً بقمع أو انهيار ينتج عنه مزيد من المنافسة في الحطام.
الآن دعونا ننظر في بديل لهذا النوع من التشاؤم. عندما نُشر اقتباس آيان مالكوم، لم يؤيده أندرسن، بل كان حذراً بشأنه، قائلاً إن كريشتون «كان محقاً في هذا. وكان أيضاً على خطأ. (الإنترنت) هي أيضاً أرض ملايين القطع والثقافات والطوائف». يعني أنه في حين أن هناك ميلاً قوياً نحو التجانس الثقافي والتمَاثُل العالمي، فإن عصر (الإنترنت) يسمح أيضاً بمزيد من ابتكارات هانسون داخل الثقافة، إذا كنت تعرف أين تبحث عنه: المزيد من التوافقية في المركز، ولكن المزيد من التخمر على الهامش؛ المزيد من التفكير الجمعي الموهن ولكن أيضاً المزيد من اللامركزية والتجارب الجذرية».