رأي

هكذا نجحنا في التعامل مع خطّة ترامب

كتب محمود الريماوي في صحيفة العربي الجديد.

تأخّر إنجاز اتفاق غزّة أكثر من ثمانية أشهر، أو نحو 250 يوماً، فقد استهّل دونالد ترامب ولايته الثانية بالتوصّل إلى ما سمّي “اتفاق 19 يناير”، بين حركة حماس وحكومة بنيامين نتنياهو، وتنصّلت الأخيرة من تنفيذ المرحلة الثانية منه، وجمّدته من طرف واحد، مستغلّةً انشغال ترامب ببدء ولايته واهتمامه بالشؤون الداخلية، وتركيزه في الحرب في أوكرانيا. ولأن الاتفاق كان على جانب من الأهمية أشير إليه في خطّة ترامب أخيراً، وفيما يتعلّق منها بمعبر رفح والانسحابات الإسرائيلية المرحلية داخل القطاع. وقد أدّى تجميد ذلك الاتفاق (والانقلاب عليه) منذ ذلك التاريخ إلى إزهاق أرواح آلاف من أبناء قطاع غزّة، وإلى خسائر بشرية في صفوف جيش الاحتلال. وهي الفترة التي كان فيها ترامب يشكو من تلاعب نتنياهو به، من دون أن يتوقّف الرئيس وأركان إدارته عن لوم حركة حماس بصورة أوتوماتيكية، لمماشاة السردية الإسرائيلية الملتوية. غير أن صمود أبناء غزّة في وجه القتلة والمقتلة، ورفضهم رفع الرايات البيضاء، وحملات التضامن الشعبي الواسعة في مراكز عديدة من العالم، وتتالي موجات الاعترافات بدولة فلسطين، وحركة احتجاج عائلات الأسرى الإسرائيليين، والاعتداء الإسرائيلي على سيادة دولة قطر… ذلك كلّه جعل البيت الأبيض يبدو شبه وحيدٍ في تأييد حرب نتنياهو، وهذا الشخص كان يريدها حرباً أبديةً أو أن تتواصل على الأقلّ حتى موعد الانتخابات الإسرائيلية في أكتوبر/ تشرين الأول من العام المقبل، بينما يسعى ترامب إلى أن يتمتّع بلقب “بطل السلام العالمي”. وثمّة من رأى أن الضغط الذي مارسه البيت الأبيض في الأيام العشرة الماضية يعود، في جانب من بواعثه، إلى اقتراب منح لجنة نوبل جائزة السلام السنوية، وعين ترامب عليها.

نجحت غطرسة نتنياهو، ومعها ضيق أفقه، في دفع إدارة ترامب إلى الضغط عليه بصورة منهجية، فقد أدّى الاعتداء على دولة قطر، الوسيطة النشطة في المفاوضات، إلى توقّف التفاوض وحملة تضامن واسعة مع هذه الدولة المسالمة، ما حمل إدارة ترامب على أن تبادر إلى كسر الجمود بوضع خطّتها الخاصّة للتفاوض ووقف الحرب، بالتزامن مع الانعقاد السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، وما رافقه من صدور إعلان نيويورك الخاصّ بإرساء سلام شامل يقوم على تفعيل حقّ إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، إلى جانب الدولة الإسرائيلية. وقد شعر أركان هذه الإدارة بأن الرياح العالمية لا تهبّ فحسب في وجه نتنياهو وحكومته المتطرّفة والمتوحّشة، بل في وجه إدارة ترامب نفسها أيضاً، التي سمحت لمجرم حربٍ بأن يتلاعب طويلاً بها، رغم ما تُغدقه على إسرائيل من دعم هائل شامل.

نجحت غطرسة نتنياهو، ومعها ضيق أفقه، في دفع إدارة ترامب إلى الضغط عليه بصورة منهجية

وبتركيزه على الأسرى الإسرائيليين، بدا ترامب معنياً بمخاطبة الإسرائيليين بالقول الضمني إنه هو، وليس نتنياهو، من سيعيد هؤلاء إلى بيوتهم، وأن نتنياهو معنيٌ فقط بإدامة الحرب لمصالحه الشخصية والسياسية، حتى لو أدّت هذه الحرب إلى قتل الأسرى الإسرائيليين، وإلى تقهقر فرص مزيد من التطبيع العربي مع الدولة الصهيونية، وهي الفترة التي كان بيبي (كما يسمّيه ترامب) يتحدّث فيها عن عزلة إسرائيلية متزايدة في العالم، عن نموذج إسبارطة والاقتصاد المكتفي بذاته. وقد اهتبل ترامب فرصة وجود قادة دول عربية وإسلامية في نيويورك للمشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة لعرض خطته التي أُعدّها مجلس الأمن القومي، وبالاستعانة بتوني بلير، وبإعادة جاريد كوشنر إلى العمل مستشاراً لترامب، وهي خطّة أريد منها مراعاة مطالب الجانب العربي، مع دعم المطالب الإسرائيلية بخصوص حركة حماس. وبينما نالت الخطّة في خطوطها العريضة قبولاً عربياً وإسلامياً، إلا أن نتنياهو، الذي كان موجوداً في نيويورك وألقى خطاباً فارغاً أمام قاعةٍ شبه فارغة، قد عكف من جانبه، وخلال لقاءات مع المبعوث ستيف ويتكوف، إلى إدخال تعديلاتٍ وإضافاتٍ إلى الخطّة، لتصبح مجموعة تعهّدات من “حماس”، وإملاءات عليها، من دون تعهّدات إسرائيلية تُذكر، بما في ذلك برمجة الانسحاب الإسرائيلي مكانياً وزمنياً.

ومع نشر الخطّة وبنودها العشرين، سارع الوسيطان العربيان، مصر وقطر، إلى القول إن الخطّة مجموعة مبادئ تستحقّ النقاش والخوض في التفاصيل. وبنقل الخطّة إلى “حماس” أجابت عليها (بالعودة إلى فصائل وطنية في القطاع) بأنها تقبلها، وأنها على استعداد للتفاوض بشأن بنودٍ فيها، والتركيز في أن من سيتولّى إدارة الحياة في القطاع لجنةٌ فلسطينيةٌ مستقلّةٌ بدعم عربي ودولي، على أن تكون المرجعية السياسية لهذه اللجنة هي السلطة الفلسطينية. ولأن ترامب يريد لخطته أن تثمر، ولأنه منفتحٌ على تعديلات، وهو ما استفاد منه نتنياهو أولاً، رأى ردّ حركة حماس إيجابياً، فيما نُسب إلى ترامب قوله إن نتنياهو دائم السلبية، وانتهى بذلك، كما يبدو، الزمن الذي كانت تلام فيه الحركة بصورة ميكانيكية وغير موضوعية، ولم يعد هناك من خيار أمام نتنياهو سوى أن يتفاوض مجدّداً مع “حماس”، وهذه المرّة بروح إيجابية، وبهدف إنجاح خطّة ترامب لا عرقلتها، وبهدف إعادة المحتجزين، وليس تعريضهم لمخاطر القصف، ولغاية إنهاء الحرب وليس تمديدها.

تحوّلت غزّة إلى امتحانٍ مزدوج: لإرادة الفلسطينيين في الوحدة، ولقدرة العرب على تحصين أمنهم الجماعي

وقد لعبت في الأثناء قطر ومصر وتركيا دوراً مشهوداً في تنظيم الانتقال إلى المرحلة الفاصلة والحاسمة من التفاوض، بالتقدّم نحو تبادل الأسرى وبدء الانسحاب الإسرائيلي، والتقدّم نحو إنهاء الحرب. وقد أصغت الحركة لنصائح الوسطاء وملاحظاتهم وعملت بموجبها، وأكّد الوسطاء لإدارة ترامب أن توجّه المفاوض الفلسطيني إيجابي، وأنه يريد للخطّة أن تنجح، وللاتفاق حولها أن يتم، وأنّ ثمّة مسائل (مثل سلاح فصائل المقاومة) لا يمكن لـ”حماس” أن تحسمها بصورة منفردة، لأنها مسائل تخصّ الجسم السياسي الفلسطيني بسائر مكوّناته، غير أن التوجّه في مجمله إيجابي، وينزع إلى الأخذ بحلّ سياسي شامل للصراع بعيداً من العنف الأعمى الأبدي.

أمكن بهذا عبور هذه المرحلة، وهي الأولى من الاتفاق، مع الاستعداد للانتقال فوراً إلى مرحلة ثانية، وهي أمور تتعلّق بمصير غزّة والمشروع الوطني الفلسطيني برمّته، كما تتّصل بالأمن الجماعي العربي والرؤية العربية لـ”اليوم التالي”، التي من شأنها تحصين المنطقة من الاختراقات ووقف التمدّد الإسرائيلي، وعدم استدراج أطرافٍ دوليةٍ لحلول جزئية ومؤقّتة وخاوية من المضمون السياسي، لا تسعف في الانتقال إلى حلّ شامل، كما هو الحال مع مجلس السلام الدولي، فثمّة حاجةٌ إلى قوات عربية ودولية تهيئ الأرضية لانتشار متدرّج لقوات الأمن الفلسطينية. أمّا “مجلس السلام” فثمة حاجة إليه من أجل إعادة الإعمار والإغاثة الشاملة وتقديم الدعم للجنة فلسطينية هي بمثابة حكومة مؤقّتة غير منقطعة الصلة بالسلطة الفلسطينية. وعلى هذا النحو، ظهر أن وضع غزّة يمثّل مسؤوليةً فلسطينيةً وعربيةً أولاً، مع الحاجة إلى دعم دولي، وأحياناً مشاركة دولية من أجل بعث الحياة في قطاع غزّة الذي دمّرته وأدمته حرب الإبادة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى