هكذا تضلّل التغطيات الغربية جماهيرها بشأن فلسطين.
كتب حسام شاكر في الجزيرة.
تجد الضحية الفلسطينية سبيلها بمشقة بالغة إلى مركز التغطيات الإعلامية الأوروبية والغربية، إن لم تُستبعَد بالكامل لصالح رواية تكاد تمنح الانطباع بأنّ “فلسطين تحتل إسرائيل”، ولن ينجو الفلسطيني من قسوة الذمّ إن اخترق حصونا تضطهده وأسوارا تحاصره. إنّه الاستنتاج الذي تسفر عنه اتجاهات التغطية والتناول الإعلامي الرائجة على جانبي الأطلسي منذ انفجار الموقف على تخوم قطاع غزة صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فكيف تنسج تلك التغطيات وعيا مضللا لدى الجماهير بشأن حقيقة ما يجري وخلفياته وأبعاده؟
“حرب صادمة على إسرائيل”
قدّمت وسائل الإعلام الأوروبية والغربية، في معظمها، تطوّرات أكتوبر/تشرين الأول الجاري في هيئة “هجوم صادم على إسرائيل”، وعرضته معظم التغطيات بصفة “هجوم إرهابي على مدنيين إسرائيليين” ثم حملة ذبح جماعية، بصفة أغفلت وجهته العسكرية الواضحة وغيّبت الضحايا المدنيين الفلسطينيين في المقابل. انسجمت التغطيات إلى حدّ كبير مع اتجاهات السياسة الخارجية الغربية بشأن التطوّرات، بما في ذلك استبعاد صفة الاحتلال لدى الإشارة إلى الجانب الإسرائيلي بصفة الضحية بينما نزعت صفة المقاومة أو التحرّر الوطني عن الهجوم الفلسطيني المباغت، خلافا لما يجري مع هجمات الأوكرانيين على غزاة بلادهم.
تشبّعت كثير من تلك التغطيات بمنحى عاطفي صريح كلّما تعلّق الأمر بالإسرائيليين، كما تجلّى في تعبيرات مكتوبة ومنطوقة، وبمنحى رمزي مماثل في ملامح القائمين على التغطيات وفي المشاهد والصور المُنتقاة فيها.
عبّرت عن هذا المنحى السائد تغطيات ميدانية مطوّلة (الاثنين 9 أكتوبر/تشرين الأول) لمراسليْ شبكة “سي إن إن” كلاريسا وارد ونيك روبرتسون، من منطقة الحفل الموسيقي الذي احتشد فيه مستوطنون ومجنّدون إسرائيليون بمحاذاة قطاع غزة. جادت تلك التغطيات ببكائية مُفعَمة بالتعاطف مع جمهور الاحتلال حصرا وبسردية مدجّجة بنعوت الهمجية والترويع بحق المقاومين الفلسطينيين. قدّمت الشاشة ذاتها مشاهد مقتضبة للغاية من استهداف المدنيين في قطاع غزة بالقصف في اليوم ذاته، جاءت في قالب وقائعي جاف يخلو من الجرعة العاطفية وبصفة مجرّدة من نعوت ذميمة بحقّ الوحشية التي أظهرها جيش الاحتلال. اعتمد ستوديو أخبار “سي إن إن”، بالتزامن مع ذلك، شعار “إسرائيل في حرب” الذي وضع الجانب الإسرائيلي في مركز الأحداث واستبعد حقيقة أنّ غزة وشعبها واقعان تحت الحرب بالأحرى.
وإذ عمدت العناوين الإخبارية إلى إقران الهجمات على أهداف إسرائيلية باسم حركة “حماس”، فإنّ شريط شاشة “سي إن إن”، مثلا، غيّب الجهة الفاعلة لدى الإشارة إلى قصف الأحياء السكنية في قطاع غزة، كما في عنوان: “فيديو جديد يُظهر تداعيات الغارات الجوية في غزة” (الاثنين). التزمت وفرة من التغطيات الأوروبية والغربية هذا التقليد المعهود في التناولات الإخبارية لتطوّرات فلسطين، فهي تحجب الصفة الإسرائيلية عن العناوين عندما يتعلّق الأمر بهجمات إرهاب وجرائم حرب واعتداءات وحشية، وتستخدم تعبيرات مُخففة للغاية أحيانا من قبيل “تأثير قصف”، أو “موت أطفال في غزة بعد غارة”، بدل مفردة “القتل” أو إفصاح العنوان عن هوية مقترف جريمة حرب إسرائيلية. هذا ما تورّطت فيه جهات إخبارية رصينة، حتى إنّ مهنية “بي بي سي” لم تمنعها من التحيّز السافر باعتماد أن تتحدّث عن مقتل إسرائيليين وموت فلسطينيين حتى في النص الواحد، كما جاء في تغريدة منشورة عبر حسابها الإخباري العالمي على منصّة “إكس” ظهر 9 أكتوبر/تشرين الأول، حققت خلال يومين أكثر من 20 مليون مشاهدة، فقد جاء فيها: “أكثر من 500 شخص ماتوا في غزة … وأكثر من 700 شخص قُتلوا في إسرائيل”.
إنْ كان هذا ما تنتهجه وسائل إعلام “مهنية ورصينة”، فإنّ حمّى المزايدات وشيطنة الشعب الفلسطيني انفلتت من عقالها في صحافة الرصيف ومنصّاتها الشبكية، كما فعلت صحيفة “بيلد” الألمانية الأوسع انتشارا والمعروفة بانحيازها الجارف للاحتلال الإسرائيلي، حتى إنّ رئيسة تحريرها ماريون هورن سارعت مساء السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل إلى نشر مقال دعت فيه إلى وقف المساعدات عن السلطة الفلسطينية، تحت عنوان “لا أموال ألمانية بعد الآن لهؤلاء البرابرة!”.
تغييب واقع وتلفيق سياقات
رغم تغطيات موسّعة قدّمتها وسائل إعلام غربية للتطوّرات، إلاّ أنها جاءت في الغالب معزولة عن سياقها الجوهري المتمثِّل بالاحتلال وسياساته. جرى في اليومين الأولين للحدث إبراز محطّات تاريخية رمزية مثل ذكرى حرب 1973 “حرب يوم الغفران”، وعقد مقارنة زمنية ومشهدية بين حدثيْن، قديم وجديد، كسرا هيبة “الجيش الذي لا يُقهر”. قدّمت الصحافة الإيطالية، مثلا، في صبيحة اليوم التالي للحدث (الأحد 8 أكتوبر/تشرين الأول) تغطيات عن طبيعة هجوم المقاومين الفلسطينيين وتحرّكهم المباغت في الميدان. أبرزت “كوريري ديلا سيرا” الحدث تحت عنوانها العريض “هجوم على إسرائيل” و”حرب” مشيرة في عناوين فرعية إلى أنّ “حماس” أطلقت مئات الصواريخ ودفعت بالمسلّحين نحو مواقع عسكرية ومدنية إسرائيلية، ووقوع ضحايا بالمئات، ومشاهد رعب في الشوارع، واحتجاز رهائن .. إلخ. ظهر في صدارة الصحيفة رسم ساذج صوّر نجمة سداسية تدلّت منها حمامة سلام تقطر دما، في اختزال بصري متحيِّز، وكأنّ حكومة الاستيطان الفاشية حملت للفلسطينيين سلاما أجهز عليه شباب غزة ذات صباح.
وبعد أن استدعت التغطيات الأولى الخلفيات العسكرية للحدث، بينما كانت القيادة الإسرائيلية وأجهزتها في غيبة عن الوعي والحضور، ظهر تأثير دعاية الاحتلال بصفة أوضح في التغطيات اللاحقة، من خلال حبكات أزاحت التغطيات إلى صورة حفلة ذبح جماعية للمدنيين وتغييب الوجهة العسكرية للهجوم الفلسطيني، وتقديم روايات مشبّعة بالعاطفة مع روايات متضاربة ومزاعم مزيّفة أحيانا عبر تغطيات إعلامية ومضامين شبكية.
ومن مناحي التلفيق التي حضرت بقوّة في التغطيات الإعلامية تقديم بعض الجنود والمستوطنين الإسرائيليين الذين كانوا في موقع الحدث في هيئة مواطنين أوروبيين أو غربيين وحسب، إلى درجة الادعاء بأنّ أحدهم أو إحداهنّ كان في الموقع لحضور “مهرجان سلام” لا أكثر. توظِّف هذه الحبكة واقع مجتمع المستوطنين، الذي تحوز نسبة معتبرة منه، وبالتالي من منتسبي جيش الاحتلال، جوازات سفر أوروبية وغربية، أو الاعتداد بانتماءاتهم السابقة على استيطان فلسطين وخدمة جيشها، ثمّ تقديم صور وديعة لهم من حساباتهم على منصّات التواصل على نحو يستدرّ الأنسنة التي تُحجب بعناية فائقة عن المواطنين الفلسطينيين الضحايا.
أسطرة الحدث على منوال 11 سبتمبر
إنّ تمركز المواقف والتغطيات الغربية حول فكرة “هجوم بربري وإرهابي صادم” تضمّن تجاهلا لطبيعة الحدث وإغفالا لسياقه المغيّب في هذا التناول. برز اتجاه فوري لجعل تاريخ 7-10 على منوال 11-9، عبر تقديم تاريخ معيّن أو حدث مخصوص في سياق “عمل ضدّ الإنسانية” و”أمم التحضّر”. باشرت وصمة “الإرهاب” نزع التطوّرات من سياق الاحتلال والحصار والعدوان والغطرسة وفاشية الاستيطان والعدوان على المقدّسات لصالح تلفيق سياق آخر، مع تغييب صفة المقاومة والتحرر الوطني أيضا.
لا عجب أن تأتي الاستجابات لهذا الاستدعاء بحملة “تضامن مع إسرائيل” رفعت أعلامها بصفة غير مسبوقة على مبنى المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي في عاصمة الوحدة، بروكسيل، وعلى مقارّ سيادية أخرى عبر القارّة، علاوة على تلوين معالم بارزة مثل برج إيفل وبوابة براندنبورغ بألوان علم الاحتلال بينما كانت طائراته تسحق أطفالا وأمهاتهم في قطاع غزة. لم ترَ تلك الهيئات والمؤسسات من قبل، ما يستحقّ رفع علم فلسطين أو عبارة “الحرية لفلسطين” حتى عندما اقترفت قوات الاحتلال مجازر جماعية وحشية من قبل على مرأى من العالم دون طلقة فلسطينية واحدة، كما جرى مثلا على تخوم قطاع غزة في منتصف مايو/ أيار 2018.
كما هي خبرة 11 سبتمبر/ أيلول 2001 فإنّ نزعة أسطرة الحدث وحفر تاريخه في الذاكرة الإنسانية بصفة متواطئة مع سردية “الإسرائيلي الضحية”، لها مفعولها الوظيفي في تبرير جموح ارتدادي وشيك والتستُّر على المروق المرتقب من المواثيق الإنسانية والقانون الدولي بمقتضى ذلك، ولم تتأخّر قيادة الاحتلال وجيشه في استثمار رشفات “التضامن” في الإجهاز على المدنيين الفلسطينيين بينما تصاعد خطاب الفتك والإبادة من منصّات سياسية وإعلامية وشبكية إسرائيلية.
تحيّزات نمطية
لا مفاجأة في تحيُّز تلك التغطيات، فالمنحى غير المتوازن ظلّ تقليدا متكرِّسا حتى عندما اقترف جيش الاحتلال جرائم حرب في محطّات زمنية سابقة تلازم معها تضليل وإساءة تأويل. تبدي المواقف السياسية والتغطيات الإعلامية في البيئات الأوروبية والغربية تعبيرات متوازنة نسبيا، أو أقلّ انحيازا إلى الجانب الإسرائيلي بالأحرى، في بعض وقائع الفتك الوحشي المصوّر بفلسطينيين عُزّل، فهي تستعد للتعاطف مع واقعة محددة لفلسطيني يُرى ذبيحا أو أهالي منكوبين بلا حيلة، لكن ليس عندما يحاول الفلسطيني ذاته استعمال حقّ مقاومة احتلال ودفع عدوان.
على أنّ المواقف السياسية والإعلامية ذاتها، لم تنفكّ عن تمجيد “مقاومة الأوكرانيين، وشجاعة قيادتهم، وبسالة قوّاتهم”. يشير هذا إلى أسبقية الموقف والاصطفاف على اتجاهات التغطية وتحيّزات التناول، وأنّ صورة الواقع وطبيعة المستجدّات ليست وحدها ما يفسِّر اتجاهات التناول الإعلامي.
وثمّة مفعول حاسم للانحياز المتأصِّل لقاعدة الاحتلال والاستيطان، كما فعلت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في احتفائها الجامح في ربيع 2023 بذكرى “تأسيس إسرائيل”، فلم تزهد فيها بسرد أساطير دعائية وعنصرية مستهلكة، دون أن تلحظ نكبة فلسطين وآلام شعبها. لا عجب أن يصطبغ مبنى مفوضيّتها سريعا بعلم إسرائيلي ضخم بعث إلى نتنياهو وجيشه ومستوطنيه بشحنة “تضامن” لم تحظَ فلسطين المحتلة بقسط منها من قبل.
وتجد تحيّزات إعلامية، صريحة وإيحائية، فرصا أعلى للتمادي في بيئات انغلقت على رواية داعمة للاحتلال، ففي بعض بلدان وسط أوروبا وشرقها مثلا تتطابق مضامين التغطيات تقليديا مع سرديات الدعاية الإسرائيلية، ولهذا ما يناظره في الانحياز الرسمي أيضا.
انتقائية مصوّرة
يؤدِّي نزع الأحداث من سياقها وتركيبها التلفيقي في سياق مُضلِّل إلى تغييب القضية وعزل إنسانها من المشهد وحرمانه من امتياز الضحية، بينما تُحجب طبيعة الاحتلال ويحظى بالأنسنة على نحو صريح أو رمزي. تطوّعت الانتقائية المصوّرة في خدمة هذا التحيُّز، قدّمت “ليبراسيون” الفرنسية، مثلا، صباح اليوم التالي للهجوم (الأحد) رواية بصرية ونصِّية متواطئة مع سردية الاحتلال. افترشت صورٌ ثلاثٌ صفحتها الأولى، شوهدت فيها أسرة مع أطفال مذعورين، وجموع حفل موسيقي يهيمون على وجوههم في الصحراء، وجثث بملابس مدنية مغطّاة في الشوارع، مع عنوان الصدمة التي يُراد أسطرتها تاريخيا في الوعي الإنساني: “إسرائيل 7 أكتوبر 2023”.
جمحت هذه الانتقائية المُصوّرة ببعض التغطيات إلى حدّ الزهد بصور ومشاهد أخّاذة للغاية في المعايير الإخبارية، لمجرّد أنها لا تخدم رواية “الهجوم الإرهابي على مدنيين إسرائيليين”، من قبيل فتية فلسطينيين عزّل يرفعون علم فلسطين فوق دبابة تحتلّ أرضهم، أو ابتهاج مخيمات لاجئين بعربة عسكرية إسرائيلية سيقت من ثكنة مهزومة. لا عجب في المقابل أن تظهر صباح الأحد (8 أكتوبر/تشرين الأول) صورة اعتلاء الفلسطينيين دبابة إسرائيلية حصينة على صدارة صحيفة “إلمانيفستو” الإيطالية تحديدا، فالصحيفة اليسارية تقبع في هامش التيّار الإعلامي المركزي في بلادها وتتميّز بتغطية متوازنة للقضية الفلسطينية، وهذا ما يمكن توقّعه من نسخ يسارية أخرى في الهوامش الصحفية، مثل “لومانيتي” الفرنسية أو “يونغه فيلت” الرقمية الألمانية.
توارت مشاهد مركزية في حدث السابع من أكتوبر/تشرين الأول لأنها أظهرت الطابع العسكري المُغيّب للحدث، كما غابت روايات استثنائية أدلى بها مستوطنون إسرائيليون عن سلوك ودود أظهره مقتحمون فلسطينيون معهم لوجود أطفال بينهم. تبخّر التمحيص اللازم مع روايات جيش الاحتلال التي جرى تلقّفها عن بعض الوقائع.
وصم فلسطين وإعفاء محتلِّيها
اختزلت تغطيات أوروبية وغربية تطوّرات “طوفان الأقصى” بإلحاق وصمة “الإرهاب” النمطية بالتطوّرات واستبعاد مفهوم المقاومة أو حركة التحرّر عنها. انزلقت الرواية الإخبارية إلى التحيُّز بدءا من تعبير “هجوم حماس المتشددة/ الإرهابية”، بينما نُزِع وصف الاحتلال عن جيشه، وغابت أوصاف العدوان أو جرائم الحرب عمّا يقترفه بحق المدنيين من أعمال قتل متواصلة في المدى الزمني للتغطيات.
وإنْ وقعت إشارات نسبية إلى مواقف وتصريحات صادمة، من قبيل تلك التي أدلى بها وزير الحرب يوآف غالانت (الاثنين 9 أكتوبر/تشرين الأوّل)، فإنّ ذلك توارى في الثنايا وعزل عن فرصة استدرار تعاطف أو تضامن مع شعب منكوب ومحاصر، حتى عندما نزع غالانت الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين ونعتهم بـ”حيوانات بشرية”، وهي توطئة لفظية نمطية للإبادة، أو عندما صرّح في إطلالته ذاتها بمنع الغذاء والماء والدواء والغاز و”كلّ شيء” عن أكثر من مليوني إنسان في القطاع المُحاصر.
اختلال التغطيات لا يساعد على الفهم
استدرجت حكومة الاحتلال وجيشها مراسلي الصحافة إلى مواقع ومسارات معيّنة وعزلتهم بحرص عن غيرها، على نحو حوّل منطقة الحفل الموسيقي إيّاه إلى محجّ صحفي، بينما أعاق الاحتلال إمكانية الوصول إلى قطاع غزة لتقديم صورة مقابلة، زيادة على تغييب الطابع العسكري الجوهري لهجوم المقاومة الفلسطينية.
حُجِب صوت فلسطين بالكامل عن بعض وسائل الإعلام الأوروبية والغربية، لكنّه عندما حضر في بعضها الآخر، مثلا باستضافة متحدثين فلسطينيين قدّم بعضهم أداءً فعّالا حظي بتداول شبكي واسع من فوره، فإنه ظلّ محاولة سباحة عكس تقاليد الانحياز المزمنة للرواية الإسرائيلية والمواقف السياسية الغربية المعتمدة وتواطؤات تجاهل الشعب الفلسطيني وقضيّته. ثمّة مضامين أفضل نسبيا في وثائقيات ومُقابلات عُرضت في ظلال الأحداث، مثلا مع إسرائيليين ناقدين لنهج حكومة نتنياهو وخيارات الاحتلال، لكنّ ذلك بقي في حضوره الشحيح معزولا نسبيا عن مجرى التغطيات الإخبارية المركزية والمتسارعة، كما غابت مواقف أكثر جرأة في تحميل الاحتلال المسؤولية أعربت عنها أوساط إسرائيلية ويهودية.
عندما تتشبّع السياسة والتغطيات بافتعال عاطفي متحيِّز لطرف معيّن فإنّ ذلك يقضم من هامش التناول الموضوعي ويضيِّق الخناق على فرص الرواية المقابلة في الحضور الإعلامي. لم يساعد هذا الانحياز على فهم متوازن للأحداث في سياقها، وعلى تشكيل تصوّر أمين وموقف منصف إزاء التطوّرات. لكنّ خبرة جولات العدوان تفيد بأنّ جرعة التواطؤ والانحياز يتآكل مفعولها مع طول الأمد وتراكم الضحايا، خاصة مع صعود مضامين شبكية متجاوزة للرواية السياسية والصناعة الإعلامية. أي أنّ واقع الاحتلال والعدوان قد يفتك بحبكته الدعائية ويحرج تحيّزات يستثمرها سريعا في اقتراف الفظائع.