أبرزرأي

مونديال قطر حضارة أمة

كتب طاهر النونو في “العربي الجديد”: ربما قدّر الله لي أن أشهد ذروة الاستعدادات النهائية لاستقبال هذه البطولة الكروية الاستثنائية. ولا بد أن يسجّل الاحترام الكبير والتقدير العالي للجهود المبذولة على مختلف المستويات، وفي الاتجاهات المتعدّدة بأحدث الوسائل التقنية، لكي تكون هذه مناسبةً مشهودةً يشار إليها بالبنان، وليس فقط مجرّد استضافة تقليدية لمناسبة دورية، فكانت جهودٌ واعداداتٌ استثنائية، بما تحمل الكلمة من معنى، أثبتت قدرة عالية في التخطيط والإبداع.

ولكن ما دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع، ليس فقط ما لمستُه من أداء يلقى احترام كل ذي لبٍّ وبصيرة وعدالة في التقييم، بل ما تتعرّض له قطر من محاولة تشويه وضغوط تمارسها بعض اللوبيات. والغريب في الأمر أن نقطة الانتقاد لدى هذه الجماعات الضاغطة، هي نقطة فخر واعتزاز لدى قطر التي تمثلنا جميعاً، كأمة عربية مسلمة تحترم تاريخها وحاضرها ومستقبلها، تفخر بقيمها وتنتمي إلى عقيدة صادقة. فرغم كل الحداثة والتقنية الهائلة المستخدمة على أعلى مستوى وبطريقة غير موجودة، حتى في حواضر الكرة العالمية، إلا أن تميز قطر أنها، إلى جانب هذا كله، تحتفظ بمنظومة قيمية تنسجم مع الطبيعة البشرية وترفض الانحرافات الخارجة عن الإنسانية والمنطق السليم للأشياء، وتتعارض مع العقيدة السمحة لهذا البلد المسلم ولأصحاب الديانات السماوية.

في كل زاوية ومنطقة من قطر اليوم، ومع كل فعالية تجد علم فلسطين، وتلمس الحب لفلسطين، والافتخار بالنضال الفلسطيني، فقطر التي وقفت إلى جانب فلسطين وشعبها في مختلف المحطّات وأشدها صعوبة، وكانت ذات بصمة ايجابية فعّالة، كما وقفت الى جانب شعوبنا العربية والاسلامية جميعاً في الملمّات، وفي لحظات الفرح والانتصار، هي ذاتها قطر اليوم التي تبدع في إظهار تاريخنا وتراثنا وأخلاقنا، وهي قطر التي نقف إلى جانبها اليوم، ونؤكّد أنها تمثل كل عربي حر.

تعوّدنا أن تشجع جماهيرنا وتقف إلى جانب المنتخبات العربية المشاركة في كأس العالم، واليوم نقف مع قطر وندعم جهودها ونعتبر هذا المونديال عربياً بامتياز من حيث المكان والترتيب والإعداد، فهي اليوم تستضيف البطولة باسم شعوبنا ودولنا جميعاً. لقد استطاعت أن تكون السبّاقة، فهي الأولى فعلاً، فهي أول دولة عربية تقيم هذه البطولة، ليس هذا فحسب، ولكنها أيضا حرصت على أن تكون لها صبغتها الخاصة المرتبطة بتاريخ وعراقة وأصالة برزت بوضوح في حفل الافتتاح، وفي كل معلم من المعالم المرتبطة بقطر وبالبطولة معاً.

من يتجوّل في شوارع قطر اليوم، يشعر بفخر حقيقي واعتزاز بالقيم والموروثات التاريخية التي استطاعت أن تبرزها بحرفية وبإتقان وبشكل حضاري بأحدث الوسائل، لتقول للعالم إننا أمة ذات حضارة بالأمس واليوم وغداً بإذن الله.

كذلك شمل حفل الافتتاح مشاهد لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة وتبقى حاضرة كمعلم انساني وكدرس أخلاقي، أعظمها مشهد أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد وهو ينحني ليقبل يد الأمير الوالد، الشيخ حمد بن خليفة، حفظهما الله، وهي رسالة عميقة تُدمع الأعين، وهي تظهر بشكل تلقائي غير متكلّف مدى الأصالة التي يحملها في صدره، والاحترام الذي يجله لوالده الذي زرع في ولده هذا الأدب الجمّ وهذه الأخلاق التي ليست غريبة عن هذا البيت وهذه الأسرة الكريمة، بل ممتدّة عبر التاريخ.

تحمل الرسالة التي حملتها قطر إلى العالم عبر هذا المونديال معاني متعدّدة في اتجاهات مختلفة، هي رسالة سياسية أننا لسنا شعوباً مهزومة، بل نملك إرادة وقدرة هائلة، ونستطيع التعامل مع الواقع وتحويله أداة طيّعة في أيادينا ولدينا القدرة على الريادة، وعناصر القوة متعدّدة وغير محصورة في إطارات معينة.

الرسالة الثانية أخلاقية، فقطر تنظم هذه الفعالية، وهي منفتحة على العالم بأسره، وتستخدم أحدث الوسائل التقنية، ولكننا نأخذ من الحضارة ما يتواءم مع قيمنا وديننا، لا نتخلى عن أيٍّ منهما، ولن تكون الحداثة على حساب الأخلاق التي نعتز بها كما نعتز بديننا، وندعو إليه العالم بأسره، ولا نذوب، بل لنا هوية واضحة نعلنها ولا نخجل منها، بل نفخر بها.

الرسالة الثالثة هي إلى الأمة، أن عناصر وحدتنا واجتماعنا أقوى، فقطر جزء من هذه الأمة العربية الإسلامية المترامية، تعتز بهذا الانتماء، وتعمل على تعزيزه والبناء عليه، فهي ابن بارّ لأسرة عريقة قد نختلف فيما بيننا، قد تحتد بيننا المواقف، ولكن أخوتنا تبقى أكبر من أي شيء.

نجحت قطر، ووصلت رسائلها واضحة جلية، ونسأل الله أن يتمّ عليها هذا الإنجاز، ويبارك لها ولنا، ويحفظها من كل شرّ

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى