أبرزرأي

مونديال قطر بيـن صراع الحضارات وتعارفها

كتب وليد القططي : بعدما يقرب من قرنٍ مضى على إبحار سفينة بطولة كأس العالم في كرة القدم (المونديال)، رست سفينة المونديال بأمان، لأول مرة، في ميناء دولة عربية وإسلامية، هي قطر، وبعد أكثر من عقدٍ من انطلاق قطار الحملة الغربية الشرسة لسحب تنظيم قطر لمونديال 2022، وصل قطار مونديال قطر بسلام إلى محطته الأخيرة بالافتتاح والمباريات.

وقد تركزت محاور الحملة الغربية ضد قطر على:

–  نزع شرعية تنظيم قطر للمونديال بإلقاء تُهمة الفساد على قرار “الفيفا” إسناد البطولة إليها.

–  نفي قدرة قطر كدولة عربية صغيرة على تنظيم البطولة كفعالية رياضية كبيرة.

–  ضرب مصداقية قطر الأخلاقية بادعاء انتهاكها لحقوق العمال الأجانب.

–  تصوير قطر كدولة “متخلّفة” عن قيم “التحضر” الغربية المتعلّقة بحرية الشواذ “المثليين” وشرب الخمور…

هذه الحملة الغربية التي شارك فيها سياسيون وإعلاميون ورياضيون وحقوقيون من مختلف الدول الأوروبية تتطلب البحث في خطورتها وجذورها في إطار التناقض بين نظريتَي صراع الحضارات في الغرب وتعارف الحضارات في الإسلام. 

خطورة الحملة الغربية ضد مونديال قطر تكمن في تنصيب الغرب نفسه سيداً على العالم ليكون: حكماً للأخلاق، ومعياراً للقيم، وميزاناً للحقيقة، ومقياساً للحضارة. لأنه – بزعمه – يملك: النموذج الأخلاقي الأمثل، والمنظومة القيَمية الأسمى، والحقيقة المطلقة الأصدق، والمثال الحضاري الأرقى.. وعلى العالم أن يحتذي به ويتبعه في كل ذلك، ومن هذه العقيدة الفوقية انطلق السياسي الإسباني جوزيف بوريل، ممثل الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، ليؤكدها بقوله: “أوروبا حديقة العالم.. وأغلب بقية العالم غابة”، مستثنياً الدول التي أنشأتها أوروبا في العالم بعد إبادتها وتهجيرها واستعباد سكانها الأصليين.

وبهذه النظرة الفوقية ترى أوروبا نفسها وامتداداتها الاستعمارية من أستراليا ونيوزيلندا إلى أميركا وكندا مروراً بـ”إسرائيل” مركزاً للعالم ومنبعاً للحضارة، بينما بقية العالم هامش مُتخلف عليه أن يتبع المركز الحضاري للعالم، حتى لو كانت أخلاق المركز انتهازية ميكافيلية، وقيمه شاذة إباحية، وحقيقته أُحادية مُطلقة، وحضارته مادية استعلائية.

رؤية السياسي الإسباني جوزيف بوريل المُعبّرة عن الغرب الأوروبي ومستعمراته في الزمن الحاضر والتي لخّصها في نظرية “الحديقة والغابة” الجديدة، هي إعادة إنتاج لرؤية الفيلسوف اليوناني 

أرسطوطاليس، المُعبّرة عن كل الأوروبيين والغرب في الزمن الغابر، والتي لخّصها مُخاطباً تلميذه الإسكندر الأكبر: “ثقافتنا هي الأفضل، حضارتنا هي الأفضل، رجالنا هم الأفضل، وكل الآخرين برابرة”. وبهذه الروح العنصرية الاستعلائية الغربية، انطلق الإسكندر الأكبر اليوناني الوثني غازياً الشرق، وانطلق هرقل الأكبر الروماني مجتاحاً الشرق، وسار على دربهما كل الغزاة القادمين من الغرب، أمثال: فريدريك الأول الألماني الصليبي، ونابليون بونابرت الفرنسي الكاثوليكي، وأدموند ألنبي البريطاني الإنجيلي، وجورج بوش الابن الأميركي البروتستانتي…

وبالروح نفسها، عمد فلاسفة أوروبا ومنهم جورج هيغل وديفيد هيوم وإيمانويل كانط إلى تأصيل فكرة تفوّق العِرق الأبيض والحضارة الأوروبية، وعمد علماء أوروبا ومنهم آدم سميث وتشارلز داروين وهربرت سبنسر إلى التنظير لفكرة الصراع وحتمية سيطرة الأغنى والأصلح والأقوى، فأنتجت فلسفتهم وعلمهم: النازية، والفاشية، والعنصرية، والإمبريالية، والصهيونية، والعولمة.

الفلسفات والنظريات التي تُؤصّل للصراع وتُنظّر للاستعلاء أعطت الغرب أحقية حسم الصراع لمصلحته، وصلاحية قيادة العالم باستعلاء؛ لكونه الأفضل عرقياً والأرقى حضارياً، وقد أعاد تأكيدها المؤرخ البريطاني الأميركي باري بوزان في أطروحته حول “المركز والأطراف” عام 1991 التي قسّم فيها العالم إلى مركز “متحضر” هو الغرب، وأطراف “متخلفة” هي بقية العالم، والمركز مُهدّد بزحف الهجرة من الأطراف، وبالصراع الحضاري بين الغرب والإسلام. ولخّصها الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما في أطروحته حول “نهاية التاريخ” عام 1992 والتي عدّ فيها ما وصل إليه الغرب بقِيَمه الليبرالية ونظامه الرأسمالي قمة الحضارة الإنسانية، وأنَّ المشكلة الأساسية بالنسبة إلى الغرب هو الصراع مع الإسلام كحضارة متناقضة معه. ووضحها المفكر الأميركي صاموئيل هنتنغتون في أطروحته حول “صدام الحضارات” عام 1996م، إذ رأى فيها أنَّ الغرب هو مركز الحضارة العالمية وحتمية خضوع الآخرين لها لا سيما الحضارتين الإسلامية والصينية؛ فَشَرْعَن بذلك العدوان الغربي بقيادة أميركا على العالم، وحمّل الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن، كل هذا الإرث للصراع الحضاري الغربي وسجّله في مقاله في أثناء حملته الانتخابية بعنوان “لماذا على أميركا أن تقود العالم؟”.

صراع الحضارات الغربي هو الأرض التي نبتت فيها شجرة العنصرية والاستعلاء الغربية، فأنتجت ثمارها المُرّة بطعم الكراهية ورائحة العدائية، التي أكل منها الأوروبيون الذين تولوا الحملة الغربية المُعادية لمونديال قطر، فكان الرد الواضح عليها والبديل الحضاري لها من مونديال قطر نفسه عندما افتتح الشاب القطري المُبدع غانم المفتاح المونديال بالآية الكريمة: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”. وهي الآية القرآنية التي وضعت الأساس لنظرية “تعارف الحضارات” الإسلامية كرؤية أصيلة للتعايش السلمي بين شعوب العالم وتعارف حضاراتهم.

نظرية “تعارف الحضارات” تقوم على أُسس هي:

–  إنَّ الله خلق الناس مختلفين: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً واحِدَةً، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ”.

–  خلق الله الناس أحراراً “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً، أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ”.

–  وخلقهم مختلفين وأحراراً ليتعارفوا “وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”، فأصل العلاقة بين الناس المختلفين والأحرار هو التعارف الإنساني القائم على مبادئ: الوحدة الإنسانية ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ”، والأصل الإنساني الواحد “إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى”، والتنوع الإنساني “وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ”، وعلاقة التعارف الإنساني “لِتَعَارَفُوا”، التعارف القائم على: تبادل المعرفة والخبرة، واستمرارية الاتصال والتواصل، وديمومة التضامن والتعاون. 

وبنظرية التعارف الإسلامية، البديل الأصيل لنظرية الصراع الغربية، يتم تقديم مفاهيم: تفاعل الحضارات على تصادم الحضارات، وتدافع الحضارات على تطاحن الحضارات، وتعارف الشعوب على تنافر الشعوب، وتلاقح الثقافات على تناقض الثقافات، ومراكمة الإنجازات البشرية على إلغاء إنجازات الآخرين، وقيم الأخوّة الإنسانية على قيم التفوّق العنصرية، والالتقاء على كلمة سواء والقواسم المشتركة على فرض الكلمة والنموذج الأوحد.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى