أبرزصدى المجتمع

مهرجان «بيروت ترنّم» يفتتح الليلة بأمسية مهمة

قال أفلاطون: «الموسيقى تَمنحُ الكونَ روحاً، والعقلَ أجنحةً، والخيالَ تحليقاً، وحياةً لكل شيء». تخيّلوا… هذا ما قاله عن الموسيقى الفيلسوف اليوناني الشهير الذي رحل قبل ولادة باخ بأكثر من ألفي سنة! تخيّلوا… قال ذلك عندما كانت الموسيقى بالكاد قد بدأت تأخذ شكلاً بدائياً جداً، في كل مجالاتها النظرية والتطبيقية. قال ذلك قبل صناعة كل الآلات الموسيقية التي نعرفها اليوم تقريباً. قال ذلك قبل التدوين الموسيقي، بل قبل ولادة النوطات السبع بتسميتها الحالية بأكثر من ألف سنة! قال ذلك قبل فيفالدي وسكارلاتي الابن وهايدن وموزار وبيتهوفن وشوبرت وشوبان وشومان وبرامز وفاغنر وتشايكوفسكي وشتراوس الألماني وسترافينسكي وشوتساكوفيتش، وقبل غرشوين و«ساتشمو» وتشارلي باركر ومايلز دايفس وجون كولتراين وثيلونيوس مونك وبيل إفانز وستان غتس. قبل الفانك والروك والديسكو. قبل طوم جوبيم وأستور بيازولا وقبل جورج براسنس وسيرج غينسبور. قبل عاصي وزياد. قبل فيروز وأسمهان وكاتلين فيرييه وماريا كالاس وبيلي هوليداي وقبل نصرت فاتح علي خان وعليم قاسيموف. قبل غلن غولد وهوروفيتز وأويستراخ وكازالس… اختصاراً: قال أفلاطون هذا الكلام عن الموسيقى «قبل» الموسيقى، ولكم أن تتخيّلوا ما كان ليقول عنها «بعد» الموسيقى.

هذه الموسيقى التي يتكلّم عنها أفلاطون ولم يسمعها، هي الأمل الباقي. والليلة ينطلق مهرجان «بيروت ترنّم» في دورته الـ15 احتفاءً بها. به. بالجمال. دورةٌ مذهلة في وضع مماثل. فيها الكثير من «النظافة» لتطهير خلايا دماغنا من وساخة تلك المفردات القذرة: «فريش» و«منصّة» و«تعميم كذا» و«صَيرفة وصرافة وصرّافين». موضوعياً، لا يجوز للمرء أن يدور وجوده الأعجوبة حول أمراض ورقة عملة. على الإنسان فعلاً أن يحجز جزءاً من «دَوَران» وجوده حول الموسيقى، وهي متاحة في «بيروت ترنّم» بدون الـ«فريش»، لا دولار ولا ليرة.


فوق كل الملاحظات الفنية والشكلية، لا يمكن عدم رفع القبّعة لهذا المهرجان. فالافتتاح قنبلة (لناحية البرنامج خصوصاً)، وبعده حفلات ممتازة (لناحية الموسيقيين والبرامج)، والأذواق معظمها مُغطّاة في مروحة الأنماط، من الكلاسيك الغربي الآلاتي (موسيقى أوركسترالية، موسيقى حُجرَة، ريسيتالات بيانو أو تشيلّو أو كمان) والإنشادي (ديني وأوبرالي) إلى الإنشاد الميلادي الغربي والشرقي، الكورالي والمنفرد، وصولاً إلى محطة جاز تُدرَج للمرة الأولى في المهرجان. أضِف إلى ذلك صعوبة التنظيم بهذه الوتيرة: يومياً! إنه أمرٌ ملفت يتميّز به «بيروت ترنّم»، ويتطلّب جهداً كبيراً وسيراً بين الألغام لفترة طويلة نسبياً، ولا يضاهيه فيه أي مهرجان مشابه آخر. هذا ما يجعله غنياً دائماً كمّاً، وغالباً كمّاً ونوعاً. لكن، في المقابل، يسبب ذلك بعض الضعف في البرمجة، تحديداً لناحية التكرار، الذي يطال الأسماء المحلية كما تلك المدعوّة من الخارج. في الفئة الأولى، لا بأس في ذلك في بلدٍ صغير وإمكاناته محدودة في إنتاج المواهب. لكن في ما خصّ الموسيقيين الأجانب، على المهرجان بذل جهود أكبر في البحث عن أسماء، وهي كثيرة، غير مكلفة وغير متعبة لوجستياً، بالأخص في مجال العزف المنفرِد (على البيانو أولاً)، حيث دعوة أوركسترات أو مجموعات موسيقية كبيرة غير ممكن في ظل الأزمة الاقتصادية/ المصرفية وفي ظل غياب أي مساهمة من الجمهور (كما هي حال المهرجانات ذات الحفلات المدفوعة).


من جهة أخرى، أطلق المهرجان هذه السنة مبادرةً شديدة الأهمية هي El Sistema بنسختها اللبنانية. هذا المنهج التربوي الموسيقي المخصص لتعليم الموسيقى لأكثر شرائح المجتمع فقراً وتهميشاً انطلق بالأساس في فنزويلا قبل أن يغزو العالم. هو بكل بساطة المكان الأفضل للبدء بتأسيس وطن على قواعد متينة. هذا نظرياً، بصرف النظر عن مدى نجاح التطبيق. الأمور لا تزال في بدايتها، ولا يسعنا تقييم هذه التجربة إلا بعد فترة من انطلاقها عملياً، لكي تظهر ثمارها بوضوح. لكن الحلم الذي يجب أن يعمل عليه «بيروت ترنّم» هو إنشاء قاعة حفلات خاصة به. فالبعض ينتقد التنظيم شبه المحصور بالكنائس والكاتدرائيات البيروتية، على الرغم من أن ذلك مبرَّر إلى حد ما، بين عنوان المهرجان وتوقيته في فترة الميلاد عند المسيحيين. لكن في كل الأحوال، تلك الأماكن مفتوحة للجميع، ناهيك بأنّ الموسيقى هي أفضل ما يحصل فيها، مقارنةً بـ«مواعظ» النشاز التي «يبخّها» رجال الدين على مسامع العباد.
اليوم ينطلق مهرجان موسيقي اسمه «بيروت ترنّم» هنا في لبنان. قدّروا النعمة التي أُعطيتم إياها بحلولكم في هذا الوجود «بعد» وليس «قبل». فكّروا بأن أفلاطون حي ويعيش في لبنان، وبأنه سيحضر الأمسيات ويجلس ربما بالقرب منكم. بشْرَته صخريّة وأذناه وكذلك لحيته الطويلة وشعره، لمن لا يعرفه. تخيّلوا أنكم أنتم أفلاطون، لكن من لحم ودم وبأذُنَين، وأخرجوا من «نفس الغرفة» التي أنتم عالقون بها، إلى الموسيقى. الآن. فلا شيء يثبت أن هناك شيئاً من هذا القبيل بعد الموت.d

يُفتتح مهرجان «بيروت ترنّم» الليلة بأمسية مهمة، لا تشبه كثيراً افتتاحاته السابقة لناحية المزاج الموسيقي إلا بنصفها الثاني. فالقسم الأول منها مخصّص لكونشرتو البيانو والأوركسترا رقم 23 لملك هذه الفئة، موزار. لا يمكن القول إن هذا العمل هو الأجمل والأشهر عند المؤلف النمسوي. فهناك وَفرَة من الروائع بهذا المستوى في ترسانة كونشرتوهات البيانو التي تركها. وإذا كانت الحركة الثانية منه تصلح لبعض التأمل العميق في الوجود، فإنّ الحركتين الأولى والثالثة تصلحان للفرح بهذا الوجود، مع بعض «التحفّظات» الموزارية المفاجِئة على الإفراط بالفرح. في هذا القسم، تتولّى العزف على البيانو الإيطالية السويسرية المغمورة شانتال باليستري يرافقها أعضاء من «الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية» بقيادة الأب توفيق معتوق. القسم الثاني يحاكي العديد من أجواء الأمسيات الافتتاحية التي شهدها المهرجان في السابق، مع فارق وحيد وجوهري: الجمال المكثّف. إنه الـ«ماغنيفيكات» (Magnificat) الشهير للألماني باخ، وهو أقصر من الأعمال الكورالية الأخرى التي سمعناها سابقاً، لكنه يفوقها جمالاً بالتأكيد. العمل مناسب تماماً لفترة عيد الميلاد، فهو مبني حرفياً، لناحية الكلمة، على نص من إنجيل لوقا عن زيارة مريم الحبلى بيسوع لأليصابات الحبلى بيوحنا المعمدان. ترك باخ نسختَين لهذا العمل، سنسمع الثانية منهما، تلك التي لا تحوي إسقاطات إضافية على النص من ترانيم ميلادية. العمل يتطلّب خمسة مغنيّن منفردين، وجوقة وأوركسترا صغيرة أساسها ثلاث آلات ترومبت (لزوم الاحتفال). وفي هذا السياق، يمكن القول إنّ الغناء المنفرد معزّز بأسماء مهمة هي الإيطالية كاترينا دي تونّو (سوبرانو—I) وميرا عقيقي (سوبرانو—II) وأيضاً الإيطالية فيديريكا كارنيفالي (ألتو) وشارل عيد (تينور) وسيزار نعيسي (باص—باريتون)، بالإضافة إلى جوقة «جامعة سيدة اللويزة» ودائماً بقيادة الأب معتوق.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى