من يدعو الدعشنة إلى طرابلس؟
كتب سامر زريق مقالاً في “اساس ميديا” قال فيه : “عدنا والعود.. داعش مرّة جديدة. ومجدّداً يعود ذكر تنظيم داعش ليقترن بمدينة طرابلس، إثر حديث عن موجة هجرة من نوع آخر شهدتها المدينة: هجرة شُبّان قُصّر، جلّهم لمّا يبلغ سنّ الرشد القانونية بعد، إلى العراق، للالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي.
وتفاعلت القضية في الأيام الماضية في الشارع الطرابلسي، بعدما ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بخبر مقتل شابّين من هؤلاء المهاجرين، على يد الجيش العراقي بعد معارك مع داعش، من دون التأكّد من صدقيّة الرواية، ما عدا مقتل الشابّين.
القضية، وعلى غير العادة، لم تحظَ بالصخب الإعلامي المصاحب لقضايا الإرهاب في طرابلس. وعدا وسائل التواصل الاجتماعي والمنصّات الطرابلسية، قلّما مرّ ذكر القضية في وسائل الإعلام.
مجدّداً يعود ذكر تنظيم داعش ليقترن بمدينة طرابلس، إثر حديث عن موجة هجرة من نوع آخر شهدتها المدينة: هجرة شُبّان قُصّر، جلّهم لمّا يبلغ سنّ الرشد القانونية بعد، إلى العراق، للالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي
إشارة مبكرة
كان رئيس تحرير جريدة الأخبار إبراهيم الأمين أوّل من نبّه إلى هذه الهجرة، في مقالة له بتاريخ 30 تشرين الثاني الماضي، ذاكراً أنّ أكثر من 35 شابّاً تركوا منازلهم والتحقوا بتنظيم داعش. ثمّ تلاهم آخرون إلى أن تعالى صوت الأهالي بعد ورود اتّصالات من بعض أبنائهم، يمكن وصفها بنداءات استغاثة لإنقاذهم من الجحيم. وحتى اليوم لا يوجد عدد واضح للمهاجرين، فهناك من يتحدّث عن 30، والبعض عن 50، وآخرون عن 70، وهناك من ذهب إلى عتبة المئة.
وعندما أُجرِيَت بعض اللقاءات الإعلامية مع الأهالي، كانت الرواية واحدة تقريباً: “استيقظنا فلم نجد أبناءنا الذين اختفوا فجأة. بحثنا عنهم كثيراً من دون جدوى. أبلغنا الأجهزة الأمنيّة فما حصدنا سوى التّجاهل، إلى أن تبيّنّا وجودهم في العراق، بعد تلقّي بعض الأمّهات اتّصالات من أبنائهنّ يغلب الظنّ أنّها جرت خلسة”.
القضية كانت محطّ اهتمام الشارع الطرابلسي، وإن همساً. فذكر داعش غير مُرحّب أو مُحبّذ حتى ولو شتماً، خوفاً من عسس الأجهزة الأمنيّة المنتشرين بين الأهالي وفي الشوارع والمقاهي، ومن عيونهم المبثوثة على وسائل التواصل الاجتماعي. فمقصلة تهمة الإرهاب حاضرة بقوّة، حتى ولو على سبيل الشبهة. وعندما يدخل الطرابلسي السجن بتهمة الإرهاب، يتخلّى عنه الجميع فوراً، ويتبرّأ منه السياسيون، فيجد نفسه وحيداً في السجن، ويبقى لسنوات من دون محاكمة، بخلاف المتهمين بالقتل والسرقة والعمالة والاتّجار بالمخدِّرات، حيث تحضر الوساطات والحمايات بقوّة وكثرة.
الصمت المقدّس
الغريب في القضية هو غياب أيّ رواية رسمية حتّى الساعة، واعتصام الأجهزة الأمنيّة بفضيلة الصمت، علماً أنّها عندما تقوم باعتقال أيّ شخص أو مجموعة بتهمة الإرهاب، تُسارع إلى نشر الخبر في وسائل الإعلام، وإرساله إلى الدول الكبرى، لإبراز كفاءتها في ملاحقة الإرهاب، حتى ولو كان الأمر شبهة فقط من دون أيّ إثبات، فما سرّ هذا الصمت؟
لا بيانات ولا حتى تسريبات تساعد على جلاء الغموض المحيط بالقضية، على الرغم من الاتّهامات التي وجّهها البعض إلى الأجهزة الأمنيّة بالتواطؤ، ولا سيّما مع الكلام الذي قالته بعض الأمّهات نقلاً عن أبنائهنّ المهاجرين، بأنّهم تلقّوا اتصالاً من شخص مجهول يُحذّرهم من أنّه سيتمّ اعتقالهم بتهمة الإرهاب، وعليهم الخروج من البلاد صوب العراق.
الرواية بحدّ ذاتها ركيكة وضعيفة البنية، لكنّ ذلك لا يُغْني عن السؤال عن هويّة الشخص المتّصل: من هو؟ ولماذا اتّصل بهؤلاء بالتحديد؟ ولماذا طلب منهم الخروج من البلاد؟ ولماذا صدّقوه؟
كلّ هذه الأسئلة هي في عهدة الأجهزة الأمنيّة التي عليها الإجابة عنها، والأهمّ مَن توجّه إليه هؤلاء الشبّان محليّاً لتسهيل أمر هجرتهم، وهذا شأن تَتَبُّعُه ليس صعباً، خاصة عبر داتا الاتّصالات؟
شملت فضيلة الصمت المقدّس أيضاً وزير الداخلية بسام المولوي، ابن المدينة، الذي يُولي اهتماماً كبيراً لملاحقة تهريب حبوب الكبتاغون. فهل حجبت هذه الأهميّة متابعة قضيّة الشبّان الطرابلسيّين؟
هناك أحاديث رائجة في الشارع الطرابلسي، وفي عظات بعض المشايخ، أنّ هؤلاء الشبّان لم يتعرّضوا لغسل دماغ فقط، بل قُدّمت إليهم عروض برواتب مغرية جداً، بلغت عتبة ألفي دولار “فريش” للشخص في الشهر الواحد
إغواء المال
ركّزت تقارير إعلامية تناولت القضية على مَن سهّل طريق الهجرة، التي كانت برّاً عبر الحدود اللبنانية السورية في منطقة وادي خالد، ثمّ عبر الحدود العراقية السورية في المناطق التي تمتلك داعش حضوراً فيها.
ليست هذه الهجرة بالأمر الصعب، فالحدود “فالتة” باعتراف الأمن، ومشرّعة لكلّ أنواع التهريب، من البشر إلى المحروقات والأدوية والموادّ الغذائية، وصولاً إلى المخدِّرات والكبتاغون. وتناولت التقارير غسل الأدمغة الذي تعرّض له الشبّان، وتلقّيهم دروساً تكفيرية، مقترنة بالدعوة إلى ترشيد وعقلنة الخطاب الديني، وكبح جماح الخطباء في بعض المساجد.
بيد أنّ التركيز على المساجد ليس له مبرّر. فمَن قال إنّ غسل الأدمغة حصل فيها. من الممكن أن تحصل اللقاءات في العديد من الأمكنة، التي يتمّ فيها التأثير على عقول الشبّان الحديثي التجربة، وأبرزها مواقع التواصل وغرف الدردشة عبر الإنترنت.
ثمّة من يقول إنّ الأجهزة الأمنيّة ليست بعيدة عن المساجد، ولديها سجلّ يحوي أسماء كلّ المواظبين على صلاة الفجر بالتحديد، وعددهم قليل جدّاً ولا يتخطّى أصابع اليد الواحدة في كلّ مسجد، ولذلك لن يذهب مَن يقوم بالتجنيد إلى المسجد، ويكشف نفسه أمام الأجهزة الأمنيّة قائلاً لهم: “ها أنا ذا أحرّض الشباب للالتحاق بداعش”!
علاوة على ذلك، هناك أحاديث رائجة في الشارع الطرابلسي، وفي عظات بعض المشايخ، أنّ هؤلاء الشبّان لم يتعرّضوا لغسل دماغ فقط، بل قُدّمت إليهم عروض برواتب مغرية جداً، بلغت عتبة ألفي دولار “فريش” للشخص في الشهر الواحد، في استغلال للفقر المُدْقع الذي يعاني منه هؤلاء الشبّان وذووهم.
وإذا كان الشباب الطرابلسي يغامر بالهجرة عبر قوارب الموت للفرار من الجحيم الذي يعيشه، من دون وجود أيّ ضمانة بالعمل أو حتى بالبقاء على قيد الحياة، فما بالكم بمَن يُعرَض عليه راتب دولاري مغرٍ يقيه وعائلته شرّ الذلّ والحاجة؟ وفي الوقت نفسه يعده بالجنّة في حال الموت “شهيداً”، بدل الموت غرقاً؟
لماذا طرابلس؟
بيد أنّ الأمر الأكثر أهميّة في القضية، والذي لم يتمّ طرحه على بساط البحث أبداً، هو: لماذا طرابلس فقط؟ لماذا اختار تنظيم داعش أو من قام بالتجنيد مدينة طرابلس لا غيرها من المدن اللبنانية لإغواء شبابها وحضّهم على الهجرة من أجل القتال؟
إذا كان الجواب أنّ طرابلس مدينة سُنّيّة، فهي ليست المدينة السُنّيّة الوحيدة، وإن كانت الكبرى. وإذا كان الجواب أنّ السبب هو الفقر، فكلّ المناطق في الفقر سواء بسواء، في ظلّ الانهيار الاقتصادي. وهناك مدن تعاني أكثر من طرابلس. لماذا لم يتمّ تجنيد مشابه في عكار أو البقاع أو في أيّ منطقة سُنّيّة أخرى؟
أمّا إذا كان الجواب أنّ البيئة حاضنة للإرهاب، فإنّنا نكون قد عدنا مرّة جديدة إلى مسألة هويّة المدينة المتّهمة باحتضانها للإرهاب والتطرّف، والتي يُعمَل على إسقاط هذه الهويّة عليها منذ التسعينيات بأشكال عديدة: تارة القاعدة، وطوراً داعش والنصرة، وأحياناً الجماعات التركيّة. المهمّ أنّها مصنع الإرهابيين.
إنّ التركيز على مدينة طرابلس مثير للريبة والخوف، وفي الوقت نفسه جرس إنذار ضخم يشير إلى جلباب الإرهاب الذي يُراد دوماً إلباسه لطرابلس التي كابدت كثيراً للخلاص منه.
السؤال ليس: كيف خرجوا، وأيّ طرق سلكوا؟
السؤال الحقيقي: ماذا يُطبَخ لهذه المدينة في الأقبية المظلمة؟ ماذا يُعَدّ لأهلها وناسها؟
اقتصار التجنيد على طرابلس وحدها فقط، وصمت الحكومة والأجهزة الأمنيّة، لا يُبشّران بالخير أبداً.”