من الشراكة إلى الخداع: كيف أهدرت سياسات المؤتمر الوطني فرص السودان مع تركيا
كتب عادل إبراهيم مصطفى, في “العرب” :
من المهم أن نشير إلى أن الدولة التركية قد وصلت إلى درجة كبيرة من نفاد الصبر في أواخر أيام رئاسة عمر البشير ما جعلها تتهم دولة المؤتمر الوطني صراحة بعدم الجدية وعدم المسؤولية.
لتوضيح الصورة الكاملة في ما يخص تعطيل انقلاب 25 أكتوبر 2021 للمصالح الاقتصادية التي كان بإمكان السودان تحقيقها من تعاونه مع جمهورية تركيا، من المناسب الوقوف قليلا عند العلاقة التي ربطت بين دولة المؤتمر الوطني وتركيا. ونقول في هذا الصدد إن تلك العلاقة قد شهدت ازدهارا واضحا على المستوى السياسي والدبلوماسي منذ صعود حزب العدالة والتنمية التركي إلى الحكم في العام 2002 وحتى العام 2019، وذلك بحكم التقارب الأيديولوجي بينه وبين حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان. ولكن مع ذلك، لم تنعكس هذه العلاقة بقدر يذكر على التعاون في المجال الاقتصادي والاستثماري، وهو الذي أرادت له تركيا أن يرتفع إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية.
غير أن ذلك لم يحدث، وعليه، لم تكن استفادة السودان من خبرات تركيا وقدراتها في مجالات الزراعة والصناعة وتطوير البنى التحتية وبناء القدرات بحجم العلاقة بين البلدين على المستوى السياسي. المسؤول عن هذا القصور هو دولة حزب المؤتمر الوطني، التي لم تكن مسألة استفادة السودان اقتصاديا من تعاونه مع الدول الأخرى تعنيها بقدر ما كانت تعنيها الفوائد التي تجنيها القيادات على المستوى الشخصي من مشروعات التعاون مع الدول الأخرى. وهذا الأمر لم تجده لدى تركيا مثلما وجدته لدى غيرها من الدول السخية في مجال العمولات (الكومشنات) والهدايا الباهظة. وفي تقديرنا، هذا هو السبب الرئيس الذي أعاق تنفيذ مشروعات التعاون التي تم الاتفاق عليها مع تركيا في مجالي الزراعة وتطوير البنى التحتية وغيرهما.
◄ تركيا تحمست للتعاون المشترك مع دولة المؤتمر الوطني في الميدان الاقتصادي والاستثماري ليس فقط بسبب عامل التقارب الأيديولوجي بين الحزبين الحاكمين، ولكن أيضا بسبب عوامل موضوعية أخرى
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن الدولة التركية قد وصلت إلى درجة كبيرة من نفاد الصبر في أواخر أيام رئاسة عمر البشير، ما جعلها تخرج الهواء الساخن وتتهم دولة المؤتمر الوطني صراحة بعدم الجدية وعدم المسؤولية. جاء ذلك على لسان الرجل الثاني في الدولة التركية الدكتور فؤاد أكتاي، نائب رئيس الجمهورية السابق والمسؤول المكلف بإدارة العلاقات الاقتصادية مع السودان حينذاك، وذلك حين لقائه وزير الحكم الاتحادي الأسبق حامد ممتاز، الذي زار تركيا في فبراير 2019 كمبعوث من قبل الرئيس المخلوع عمر البشير. نقل الدكتور أكتاي للمبعوث الرئاسي غضب واستياء تركيا وخيبة أملها جراء مماطلة حكومة السودان وعدم جديتها في تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، وتنصلها من الوفاء بما التزمت به حين زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السودان في ديسمبر 2017.
أكثر من ذلك، قال المسؤول التركي إنه لم يعد متحمسا للتعاون مع السودان، ومضى إلى القول بأن تفسيره الوحيد لعدم جدية حكومة السودان في تنفيذ اتفاقيات التعاون الاقتصادي المبرمة بينها وبين تركيا، هو أنها، أي حكومة السودان، إما تفعل ذلك استجابة لضغوط تتعرض لها من طرف ثالث لا يريد لعلاقتها مع تركيا أن ترتفع إلى المستوى الإستراتيجي، أو أنها تعاني من خلل ما يجردها من الجدية والمسؤولية.
في تقديرنا، خيبة الأمل التي عبر عنها النائب السابق لرئيس الجمهورية التركي، وقد سمعتها منه شخصيا في أول لقاء لي معه عقب تقديم أوراق اعتمادي للرئيس التركي، كما سمعتها من وزير الخارجية السابق ومن عدد من شخصيات الأعمال التركية، تنطلق من حرص تركيا على تقوية وتعزيز العلاقة الاقتصادية مع السودان. وذلك لاعتبارات تتجاوز العامل الأيديولوجي، منها أهمية السودان من حيث الموقع وتوفر الموارد الطبيعية المتنوعة، فضلا عن الروابط التاريخية بين البلدين، واهتمام وحرص تركيا الكبيرين على تطوير التعاون الاقتصادي والاستثماري مع دول القارة الأفريقية، الأمر الذي دفعها إلى تأسيس منبر للتعاون الأفريقي – التركي، الذي يلتئم كل عامين على مستوى القمة.
هذا، وقد استفادت بعض الدول الأفريقية، ليس من بينها السودان بكل أسف، من الاستثمارات التركية الضخمة. نذكر منها السنغال، التي تم تشييد مطارها الدولي الجديد بواسطة شركة “سوما” التركية بنظام التعاقدات المعروف باسم “B.O.T”، ثم الجارة إثيوبيا التي بلغ عدد الشركات التركية العاملة فيها بنهاية العام 2019 حوالي 200 شركة. كما بلغ إجمالي الاستثمارات التركية فيها في مختلف المجالات الصناعية ومجال الكهرباء حوالي ملياري دولار، بينما لم تتجاوز الاستثمارات التركية في السودان الـ500 مليون دولار بنهاية عام 2019. كما استفادت إثيوبيا من القدرات التركية في مجال إعادة ترميم الآثار بقيام إحدى الشركات التركية بإعادة ترميم الآثار الإسلامية في منطقة نجاش، وشيدت مسجدا ضم ضريح الملك النجاشي الذي آوى المهاجرين الأوائل من المسلمين الذين فروا إليه من مكة المكرمة.
◄استفادة السودان من خبرات تركيا وقدراتها في مجالات الزراعة والصناعة وتطوير البنى التحتية وبناء القدرات لم تكن بحجم العلاقة بين البلدين على المستوى السياسي
بالعودة إلى الموقف التركي الغاضب تجاه السودان الذي عبر عنه نائب الرئيس التركي، فقد جاء كرد فعل لاستهتار ولامبالاة حكومة المؤتمر الوطني تجاه الاتفاقيات التي أبرمتها مع تركيا، وتنصلها من تنفيذ التزاماتها بموجب تلك الاتفاقيات. وهنالك أمثلة عديدة لذلك الاستهتار وتلك اللامبالاة.
المثال الأول: يتعلق بالاتفاق الذي عرف باسم “اتفاق التعاون الثنائي والشراكة الإستراتيجية بين السودان وتركيا في المجال الزراعي”، والذي تم توقيعه في عام 2014. نص على التزام الجانب السوداني بتأجير أراض زراعية بمساحة 780 ألف هكتار للاستثمار التركي، وتأسيس شركة زراعية سودانية – تركية مشتركة للترويج للمشروع وسط المستثمرين وشركات القطاع الخاص التركية ذات الصلة. كما نص الاتفاق على نقل الخبرات والتكنولوجيا التركية في المجال الزراعي بشقيه النباتي والحيواني إلى المشروع. ومع ذلك، ظل الجانب السوداني يماطل في تخصيص الأرض ويتهرب من ملاحقة الجانب التركي لما يقارب الأربعة أعوام.
المثال الثاني: الاتفاق الذي أبرمته حكومة السودان في مارس – آذار 2018 مع شركة “سوما” التركية، إحدى كبريات الشركات المتخصصة في بناء المطارات على مستوى الشرق الأوسط، لتنفيذ مشروع مطار الخرطوم الدولي الجديد. ولكن بكل أسف، لم يتقدم المشروع قيد أنملة، ووضعت أمامه مجموعة من العراقيل بحيل وألاعيب لا يجيدها إلا أهل المؤتمر الوطني.
خلاصة الأمر، أن تركيا تحمست للتعاون المشترك مع دولة المؤتمر الوطني في الميدان الاقتصادي والاستثماري ليس فقط بسبب عامل التقارب الأيديولوجي بين الحزبين الحاكمين، ولكن أيضا بسبب عوامل موضوعية أخرى. ولذلك كانت تركيا إحدى الدول التي أعلنت ترحيبها بخلع الرئيس عمر البشير.