ممرّ بايدن وعَلاقته بتصفية القضية الفلسطينية.
كتبت صالحة علام في الجزيرة.
منذ اندلاع “طوفان الأقصى” وردود الأفعال العالميَّة تتوالى بصورةٍ غير مسبوقة، لكنَّها هذه المرَّة لم تأتِ روتينية كالمعتاد، إذ لم تحمل أيَّ قدر من مطالب ضبط النفس والتهدئة، واقتراح هدنة لإيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين العالقين في غزة، المحاصرين بين أزيز الطائرات، وأصوات القنابل والتفجيرات، وصافرات الإنذار التي تدوي في جميع الأنحاء ليلًا ونهارًا.
الغريب واللافت للانتباه في هذه التصريحات، هو هذا الكمّ الهائل من الاتهامات التي وجهت للجانب الفلسطينيّ من أصدقاء واشنطن والمنتفعين منها، واستخدام أسلوب التهديد والتحذير لكل من سيحاول مدّ يد العون للفلسطينيين، أو دخول أطراف أخرى على خطّ الصراع القائم، ووصم المقاومين والداعمين لهم بالإرهابيين.
لقد سارعت كلّ من: الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وفرنسا لإرسال أعتى وأضخم الأساطيل البحرية، المحملة بالعتاد الحربي المتنوع، ووضعها موضع التأهب في شرق المتوسط أمام سواحل غزة، وإعلان دول أوروبية عدة عن استعدادها لدعم الكيان الصهيوني بكل ما يحتاج إليه في حرب الإبادة التي يشنّها ضد كل ما هو فلسطيني من بشر وحجر.
ورأينا جميعًا القمع الذي مارستْه “الدول الديمقراطية” ضد دعوات التظاهر وتنظيم الاحتجاجات بها رفضًا للعدوان على أرض فلسطين، حيث قامت قوات الشرطة المنتشرة بكثافة في الشوارع والميادين الأوروبية بضرب وسحْل واعتقال مئات المتظاهرين لمجرد رفضهم حربَ الإبادة في غزة.
هذا إلى جانب قرارات تجريم التضامن مع الشعب الفلسطيني، الذي يعرض صاحبه للسجن ودفع غرامة مالية، وتهديد المتجنسين لديهم -خصوصًا من المسلمين- بسحب الجنسيات وطردهم خارج البلاد. ليصبح من الطبيعي بل ومن الضروري البحث عن أسباب هذا التحول الكبير في المواقف، لفهم الوحشية المقيتة التي أصبحت تسوّقُها وتتعامل بها دول تدّعي الديمقراطية، وترفع في وجوهنا جميعًا لواء حقوق الإنسان.
حمى الممرات التجارية والهيمنة الاقتصادية
الحقيقة التي تشيرُ إليها التطوراتُ التي شهدها العالم أجمع مؤخرًا، تحركها رغبة محمومة في إعادة فرض السيطرة والهيمنة على مقدرات الشعوب من خلال الاقتصاد هذه المرّة، يشهد على هذا حمى الممرات التجارية التي اجتاحت العالم خلال السنوات العشر الماضية، وآخرها المشروع الذي تم الإعلان عنه في قمة العشرين الأخيرة التي عُقدت بالهند يومي التاسع والعاشر من شهر سبتمبر/ أيلول الماضي.
وهو المشروع المسمى بممرّ بايدن، الذي سيتم بمقتضاه إنشاء ممر اقتصادي يقوم بالربط بين الهند وأوروبا مرورًا بالشرق الأوسط، وتشارك فيه كل من: الولايات المتحدة الأميركية، والهند، والإمارات العربية المتحدة، والسعودية، والأردن، وإسرائيل، وإيطاليا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي.
دخول الشرق الأوسط، وتحديدًا الأراضي الفلسطينية الخاضعة لسلطة الاحتلال حتى ميناء حيفا ضمن هذا المشروع، هو كلمة السر الحقيقية وراء عمليات التدمير الممنهج للبنية التحتية للأراضي الفلسطينية في غزة، والإبادة الجماعية لأهلها، وتحريك واشنطن أساطيلها الحربية وتمركزها أمام سواحل غزة في وضع التأهب، والدعوات التي تنطلق من هنا وهناك لبدء عملية ترحيلٍ لمليونين ونصف المليون فلسطيني من غزة إلى سيناء في مصر، على أن يتم لاحقًا ترحيل سكان الضفة الغربية إلى الأردن، مقابل إسقاط مديونيتهما لدى المؤسسات المالية العالمية والدول الغربية.
دلائل كثيرة تؤكد صحة هذا الطرح، أولها وأهمها يكمن في الهدف من مشروع ممرّ بايدن، والذي يتمحور حول إيجاد آلية لمواجهة التمدد التجاري الصيني المتمثل في مبادرة الصين المسماة: ” الطريق والحزام” التي أعلنت عنها بكين عام 2015، بهدف زيادة حجم تجارتها مع دول آسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وأوروبا، ودول كل من: إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ويأتي هذا خصوصًا بعد أن نجحت الصين في ضمّ أكثر من مائة وخمسين دولة ومنظمة عالمية إلى مبادرتها هذه؛ بهدف ضخّ استثمارات ضخمة لتطوير البنى التحتية للممرّات الاقتصادية التي ستقوم بربط أكثر من سبعين دولة لإنشاء حزام بري من السكك الحديدية يمرّ عبر دول آسيا الوسطى وروسيا، إلى جانب طريق بحري يُمكن الصين من الوصول إلى إفريقيا وأوروبا، بتكلفة إجمالية تصل إلى تريليون دولار، الأمر الذي سيعزز من مكانتها الاقتصادية، ويمنحها حضورًا تجاريًا طاغيًا في منطقة جغرافية يقطنها ثلثا سكان المعمورة.
ممرّ بايدن ودوره في مواجهة ممرّ الطريق والحزام
ولمواجهة هذا المشروع ومنافسته عرضَ الرئيس الأميركي على شركائه الأوروبيين عام 2021 خطة لتنفيذ مشروع ممرّ اقتصادي عالمي يضم عددًا من الموانئ البحرية، مع ربطها ببعضها بعضًا، إلى جانب شبكة من خطوط السكك الحديدية، وطرق للمواصلات البرية، إضافة إلى مدّ خطوط أنابيب لتصدير واستيراد الكهرباء والهيدروجين لتعزيز إمدادات الطاقة، وإقامة كابلات ألياف ضوئية لنقل البيانات وتبادل المعلومات من خلال شبكة ضخمة عابرة للحدود ذات تقنية بالغة الدقة والكفاءة.
مقترحًا أن يشارك فيه إلى جانب واشنطن والاتحاد الأوروبي، حلفاؤُهما في كل من: آسيا، وأوروبا، والشرق الأوسط، واصفًا إياه بأنه سيغير قواعد اللعبة، وخلق شرق أوسط جديد أكثر تكاملًا وازدهارًا، يتمتع برفاهية واستقرار لم يحظَ بهما من قبل.
ويتفرع من ممرّ بايدن ممراتٌ منفصلة، أولها يبدأ من الهند بحرًا وصولًا إلى الخليج العربي، والثاني يبدأ برًا من الإمارات، مرورًا بالسعودية، والأردن وصولًا إلى الأراضي المحتلة حتى ميناء حيفا، والثالث من حيفا إلى أوروربا عبر البحر المتوسط وصولًا إلى ميناء بيرايوس اليوناني، الذي سيمثل نقطة توزيع البضائع برًا على الدول الأوروبية.
القادة الأوروبيون الذين يبحثون عن مخرج لمواجهة التحديات التي تواجه اقتصاديات بلدانهم؛ نتيجة تنامي الهيمنة الصينية على الاقتصاد العالمي، وجدوا ضالتهم في مشروع بايدن، خصوصًا بعد أن بلغ حجم العجز التجاري بينهم وبين الصين في العام الماضي ما يقرب من 400 مليار دولار، واعتبروه طوق النجاة من الوقوع أكثر في براثن التنين الصيني، لذ سارعت إيطاليا- أحد المشاركين في مشروع الطريق والحزام- إلى إعلان انسحابها منه، عقب طرح بايدن مشروعَه رسميًا في قمة العشرين الأخيرة.
الأراضي المحتلة وتهديدها سلامة ممرّ بايدن
العقبة الوحيدة التي برزت أمامهم ووجدوا أنها ستقف عائقًا صلدًا، يهدد أمن وسلامة مشروع بايدن هو الجزء المرتبط بالأراضي المحتلة، إذ سيمنع ولادة شرق أوسط جديد، لذ اتفق الجميع على ما يبدو على ضرورة اتخاذ إجراء حاسم وحازم مهما بلغت تكلفته الإنسانية والمالية، والذي سيتم بمقتضاه ضرب عدة عصافير بحجر واحد، وضمان أمن وسلامة المشروع دون الحاجة إلى رصد ميزانيات ضخمة بصفة دورية لتأمين هذا الجزء تحديدًا من الممر، في ظل وجود العديد من التنظيمات والفصائل الفلسطينية المسلحة التي تمثل تهديدًا للمشروع ولأمن دولة الاحتلال، وتحقيق رغبة الكيان الصهيوني في السطو على ما تبقى من الأراضي الفلسطينية سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، وإنهاء الوجود الفلسطيني وإغلاق هذا الملف للأبد، وقطع الطريق على تركيا في شرق المتوسط لصالح اليونان.
كان ينقصهم فقط الفرصة لتنفيذ هذا المخطط الشيطاني، ومع اندلاع “طوفان الأقصى” ردًا على الاستفزازات الإسرائيلية، واستمرار المتعصبين اليهود في اقتحام الأقصى وتدنيسه، واستهداف المرابطين والمرابطات، وجدوا ضالتهم المنشودة، فاندفعوا لتنفيذ مخططهم بكل قوة ووحشية، متجاهلين ردودَ الفعل العربية والإسلامية تمامًا، كما سبق أن حدث خلال نكبة 1948.
وطرقًا للحديد وهو ساخن، كان الإعلان عن زيارة الرئيس الأميركي واجتماعه في الأردن مع كل من: مصر، والأردن، ومحمود عباس ممثلًا للجانب الفلسطيني لإقرار خُطة التهجير الجديدة، وتحديد المكافآت التي سيحصل عليها كل طرف سيُقرُ هذا المخطط ويوافق على تنفيذه، من أجل شرق أوسط جديد بدون القضية الفلسطينية، إلا أنَّ قصف مستشفى المعمداني حال دون إتمام الزيارة، وإن كان تنفيذ المخطط سيظل مستمرًا، وهنا يجب ألا ننسى أن تسارع التطبيع بين بعض الأنظمة العربية ودولة الاحتلال خلال الفترة الماضية، قد ساهم بصورة مباشرة في تسريع الغرب خطوات تصفية القضية الفلسطينية على هذا النّحو.