رأي

مع سبق الإصرار !

كتب محمد مفتي في صحيفة عكاظ.

خلّفت أحداث السابع من أكتوبر والتي تجاوزت الشهرين أكثر من عشرين ألف قتيل مدني من سكان غزة والضفة الغربية، ومن الواضح بل ومن المؤكد أيضاً أن هؤلاء المدنيين ليسوا من حملة السلاح ولا يمثلون أي تهديد للجيش الإسرائيلي، وخاصة أن الكثير منهم كانوا يحتمون بالمدارس والمستشفيات ومن الصعوبة بمكان أن نتصور أن كل هذه القذائف التي انهالت عليهم أخطأت طريقها، أو أن تلك الملاجئ كانت تؤوي المسلحين كما تدعي إسرائيل، والتي لم تقدم دليلاً واحداً على صحة ادعائها بوجود تلك الأنفاق في تلك المناطق كما تدعي حتى اللحظة الراهنة.


من خلال تتبع الحروب التي خاضتها إسرائيل ضد العرب نجد أن قتل المدنيين هو عقيدة راسخة ومتغلغلة في فكر الحركة الصهيونية والتي تتحكم بدورها في إستراتيجيات الجيش الإسرائيلي وسلوكياته، وأذكر في أحد البرامج الوثائقية الغربية التي وثّقت الصراع العربي الإسرائيلي كيف أن بعض المليشيات الصهيونية (كبلماخ والهاجانة والأرجون) كانت حريصة على تدمير القرى الفلسطينية، ويذكر أحد قادة الأرجون أنه أعطى الأوامر بإلقاء القنابل داخل المنازل لإبادة القاطنين فيها، أما من تبقى على قيد الحياة من المقاومين المدنيين فقد تم إعدامهم رمياً بالرصاص.

كما يزخر التاريخ بالعديد من الأمثلة المشابهة، فعقب احتلال إسرائيل لسيناء في العام 1967 بدأت مصر حرب الاستنزاف على أراضي سيناء لإجبار إسرائيل على تركها مما كبّد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة، ولذلك لم تجد إسرائيل أمامها سوى ارتكاب أفظع الجرائم الوحشية بحق الأطفال والمدنيين، فقامت بارتكاب عدة مجازر من أشهرها مجزرة مدرسة بحر البقر التي راح ضحيتها عشرات الأطفال، كما قصفت مصنع أبو زعبل الذي قتل خلاله ما يقرب من 70 عاملاً مدنياً.

عندما غزت إسرائيل لبنان في ثمانينات القرن الماضي قامت بحصار مخيمي صابرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين العام 1982، وأعطت الضوء الأخضر للغوغائيين والمخربين باقتحام المخيمات وقتل الآلاف من النساء والأطفال وكبار السن، وهي الحادثة التي تسببت -بسبب بشاعتها- في اندلاع مظاهرات عارمة في العالم وفي إسرائيل نفسها للتنديد بوحشية قادتها ومطالبة رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجين -وقتذاك- بالاستقالة، وهو ما دفعه لتقديم وزير دفاعه آرائيل شارون ككبش فداء بعد أن أقاله من منصبه.

من الصعب حصر جرائم إسرائيل خلال بضعة أسطر، فالسياسة التي تتبعها إسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين لم تتغير عن تلك التي اتبعتها خلال العقود السبعة الماضية؛ ترهيب وقتل وهدم منازل واعتقال الأبرياء وتعذيب ذويهم، بل دعمت أيضاً تلك السياسة مؤخراً بحصار اقتصادي قاتل وحرمان مستمر للسكان المدنيين من أبسط حقوقهم في الحصول على المياه والوقود والكهرباء والطعام، وكل ذلك بهدف بث الرعب والفزع والهلع في قلوبهم ليتركوا أرضهم ويتم إحلال اليهود بدلاً منهم للسكنى والإقامة فيها.

بمناسبة وبدون مناسبة لا يتوقف زعماء إسرائيل عن استحضار أحداث الهولوكست التي حدثت خلال الحرب العالمية الثانية، ولا أعلم لماذا يستحضرونها عند بدء كل حرب ضد العرب وكأنهم يبررون قسوتهم المفرطة بالانتقام، وهم يعلمون تماماً أن تلك الأحداث لم يكن للعرب يد فيها، ولعل إسرائيل تتناسى أن ما تقوم به في لبنان والجولان وفي الأراضي الفلسطينية سيظل محفوراً في ذاكرة التاريخ، وأن إسرائيل تقوم بجرائم حرب في الأراضي المحتلة تفوق الوصف.

ربما تلعب السياسة الدولية دوراً أكبر من الإنسانية خلال صراعها الأخيرة ضد سكان غزة، وقد بدأ التعاطف الدولي الذي حصدته إسرائيل في بداية الصراع معها -من البعض- في التآكل يوماً بعد يوم، وقد بدأت الانتفاضات الشعبية ضد أعمالها الهمجية في العديد من دول العالم تحرج زعماء الدول الغربية أنفسهم، مؤذنة بزوال شريعة الغاب التي لم يعد العالم قادراً على تحمّلها، فإن كانت جرائمها التي اقترفتها في منتصف القرن الماضي لم تصل إلى أسماع شعوب العالم وقتذاك، فعالم اليوم ينقل جرائمها يوماً بيوم وساعة بساعة.

تعتمد سياسة إسرائيل كعادتها على سياسة تجاهل أسباب الصراعات والقفز مباشرة على النتائج، غير أن عليها أن تدرك أنها إذا أرادت الاستمرار في المنطقة بسلام عليها أن تعيد الجولان التي اغتصبتها للسوريين بعد إزالة المستوطنات التي بنيت عليها، وأن تعيد مزارع شبعا للبنانيين، وأن تعيد الضفة الغربية كاملة لأهلها، وأن تفك الحصار الظالم والقاتل المفروض على أهل غزة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى