مصر ودورها في اتفاق غزة

كتب محمد الشاذلي في صحيفة بوابة الأهرام.
لا تدور مصر في فلك أحد، وقد يكون ما تراه ليس كما يبدو (على اسم المسلسل التليفزيوني)؛ لأنها السياسة يا عزيزي، فن الممكن أو الحصول على أكبر قدر من المكاسب وأقل نسبة تنازلات.
ما الذي حدث في “اتفاق غزة” ليصبح ما هو عليه الآن؟ إنه “اتفاق ترامب” بامتياز. ولكن، هل كان الرئيس الأمريكي خطَّط للاتفاق كما صدر في شكله الأخير، أو كما يبدو أنه صاحبه الحصري والوحيد، ومن إبداعه وإلهامه وبنات أفكاره، وأن على البقية الباقية من الدول الاقتناع والتنفيذ؟
عندما وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض منذ عشرة أشهر، تبدو كعشر سنوات من زحمة ما جرى من مياه في الأنهار ودماء في التراب، وحروب وصراعات. فبعد أيام من وصوله إلى سدة الحكم، تحدث عن تحويل غزة إلى “ريفيرا” جديدة. أما العالم الذي أذهله الاقتراح، ومنهم من هو من داخل الإدارة والحزب الجمهوري، فقد تابع مسار الفكرة، ليجد أن ترامب بعث، أول ما استلم الرئاسة، بصديقه ومبعوثه ستيف ويتكوف إلى غزة. وعاد ويتكوف ليهمس في أذن ترامب بأن غزة لم تعد صالحة للسكن، وحتى تتحقق الريفيرا الفخمة في غزة، فإن على أهلها الخروج منها فورًا إلى سيناء والأردن. وكإدارة من المطورين العقاريين لاحظوا “واجهة غزة” القيمة، وإطلالتها المبهرة على البحر المتوسط، وقدرتها على المنافسة.
وتطور الأمر بشكل مريب عندما أعلن الرئيس ترامب بأنه تحدث مع الرئيس السيسي بشأن نقل الفلسطينيين من غزة. والمثير للدهشة أن هذا الحديث لم يجر أبدًا، ونفت الرئاسة المصرية حدوث أي اتصال. بعدها أكد ترامب أن مصر والأردن سيوافقان على اقتراحه، وقال بالحرف الواحد: “أنا واثق بأن الأردن ومصر ستستقبلان أهل غزة”. ولما زاد الأمر عن الحد، فإن الرئيس السيسي وقف ضده، وأعلن أن ترحيل أو تهجير الشعب الفلسطيني ظلم لا يمكن أن نشارك فيه.
وعلى الهامش، حامت شطحات يمينية إسرائيلية سخيفة تلح على ضرورة تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء “الواسعة”، وإلى وحدات سكنية “فارغة” كثيرة في المدن الجديدة لا تجد سكانها ومصر لا تحتاجها، وأهمية تنفيذ مصر للاقتراح، لأنه سيساهم في إنعاش اقتصادي لديها، وسداد الديون الأجنبية دفعة واحدة. ولم تكن هذه سوى اقتراحات مزرية وغير أخلاقية ولا تتمتع بأي فهم للشخصية المصرية.
ولم يتوانَ نتنياهو عن تصدير الرعب للفلسطينيين المتمسكين بالبقاء، وأبلغ أعضاء الكنيست أن “إسرائيل تدمر المنازل في غزة حتى لا يبقى للفلسطينيين خيار سوى مغادرة القطاع”. لكن يقول نتنياهو في الجلسة السرية التي كشف عنها موقع إخباري إسرائيلي: “مشكلتنا الأساسية هي العثور على دول تقبلهم”. وكانت هذه إشارة بدء المحاولات اليائسة للتفاهم وإغراء دول تقبل، وساعدت الولايات المتحدة في هذه الاتصالات والإغراءات من دون جدوى.
بادرت مصر بتقديم بديل، فالدبلوماسية المصرية لا ترفض فحسب، رغم أن الرفض موقف، لكنها اقترحت إعادة إعمار غزة من دون نقل أهلها، وأن يكونوا جزءًا من عملية الإعمار، وليس خروجهم ثم عودتهم غير المؤكدة لاستلام الوحدات السكنية “تشطيب مفتاح”. وقدمت خطة مصرية لإعادة الإعمار تحولت وأصبحت خطة عربية، بعد التوافق عليها في القمة العربية الطارئة في شهر مارس الماضي.
إن خطة ترامب لم تكن بهذه البنود التي تبلورت وظهرت بها الآن؛ لأن الدبلوماسية المصرية أضافت إليها بشكل مباشر وغير مباشر، كما انتقصت منها، لتصبح كما هي التي في أيدينا الآن، ليس كما نتمنى بالكامل، وإنما كما أمكننا الوصول إليه بعد جهد واضح وإصرار وعزم، ومن بين أنياب يمين إسرائيلي شرس ويمين أمريكي أشرس.
ربما لهذا فرح الناس في غزة، كما تابعنا في الفضائيات، من أن كابوس الحرب انزاح، وأن مهمة اليوم التالي الصعبة بدأت، وأن مهمة أو محاولة العودة إلى غزة ما قبل السابع من أكتوبر بدأت عمليًا، أو كما يعرفها البعض بـ”اليوم التالي”.
وبتأكيدات رجل الأعمال الفلسطيني الأمريكي بشارة بحبح، وهو أحد الأسماء التي برزت في أفق الوساطة الأمريكية مع حركة حماس، فإن كل ما يطرح من خطط حول مستقبل غزة عبارة عن تقديرات وفرضيات. واعتبر بحبح أن الخطة الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق هي المبادرة العربية التي صاغتها مصر. وهكذا جاء الدور المصري في هذه الخطة لينتزع من الإدارة الأمريكية موافقة على إعادة الإعمار من دون تهجير، وإعادة السلطة الفلسطينية إلى الواجهة، ولو يبدأ الأمر من العودة للمشاركة في تشغيل معبر رفح البري، والانخراط في عملية مصالحة واسعة بين الفصائل، وتدفق المساعدات ليستطيع الناس مواصلة الحياة تحت ضغوط الدمار والأمراض والفقد، وكل ما ستكشف عنه المعاينة عن قرب مما لم يرصده أحد عن بعد.
توصلنا إلى اتفاق ببنود رئيسية واضحة، لكن تفاصيل التنفيذ ستظل رهنًا بضغوط عربية ودولية؛ لأن إسرائيل ستقف أمام كل بند لتحوله لصالحها، كما ستحاول تعطيل خطة الإعمار لتنفذ في مائة عام وليس بضعة أعوام، كما ستمتنع عن تقديم ضمانات بكل ما أوتيت من قوة وصفاقة، ليستمر الصراع طويل الأمد، لأن أي تطور زمني محدد سيقود إلى دولة فلسطينية ترفضها وتروج لرفضها باعتبارها ستدمر دولة إسرائيل في نهاية المطاف.
إن مشاهد العودة التي تتلخص في شريان من البشر متجه شمالًا هي وحدها التي تؤكد أن القضية الفلسطينية لن تموت كما أرادت لها إسرائيل.