رأي

ما يحدث في رفح اختبار لمستقبل المقاومة

كتب علي قاسم في صحيفة العرب.

التطورات تطرح أسئلة أخلاقية عميقة: هل يمكن للمقاومة الاستمرار إذا كانت تكلفتها الإنسانية بهذا الحجم؟ وهل يحق لأي تنظيم استخدام المدنيين كدروع بشرية؟

ما يبدو في ظاهره خطوة تكتيكية لتجنب تصعيد إضافي، يحمل في جوهره تحولات استراتيجية عميقة قد تعيد تشكيل مفهوم المقاومة الفلسطينية، وتطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل الكفاح المسلح في مواجهة واقع جيوسياسي متغير.

منذ سنوات، شكّلت أنفاق غزة رمزاً للمقاومة، إذ مثّلت شبكة معقدة من التحصينات تحت الأرض مكّنت المقاتلين من التنقل والدفاع في وجه الغزوات الإسرائيلية المتكررة. بنيت هذه الأنفاق على مدى عقود، مستفيدة من طبيعة التربة الرملية، وأصبحت جزءاً أساسياً من استراتيجية حماس في مواجهة التفوق التكنولوجي الإسرائيلي. غير أنّ هذه الأنفاق تحولت اليوم إلى عبء سياسي وإنساني، خاصة في رفح الجنوبية التي باتت تحت سيطرة إسرائيلية كاملة. تقارير إعلامية حديثة تشير إلى أنّ ما بين 100 و200 مقاتل محاصرون في هذه الأنفاق، في منطقة تخضع للقصف المكثف والحصار البري.

ومع الضغوط الدولية، بدأت إسرائيل تناقش تسوية محتملة تشمل إخراج هؤلاء المقاتلين مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار، بشروط صارمة مثل تسليم أسلحتهم إلى مصر وتقديم معلومات عن الأسرى. هذا التحول في الخطاب الإسرائيلي، من الإصرار على الحسم العسكري إلى قبول التفاوض المشروط، يكشف عن تعقيدات جديدة في المشهد، حيث لم تعد الأنفاق مجرد أداة دفاعية، بل عقبة أمام اتفاقات هدنة أوسع نطاقاً.

البعد الإنساني يظل الأكثر إلحاحاً في هذه التسوية. رفح، المدينة الحدودية التي تحولت إلى ساحة حرب، تعاني من حصار مزدوج يشمل القصف الجوي والبري، إضافة إلى التحديات تحت الأرض. المدنيون، الذين يشكلون غالبية السكان، يدفعون الثمن الأكبر: نزوح جماعي يفوق المليون شخص، ودمار واسع في البنية التحتية، حيث دُمر أكثر من 1500 مبنى منذ بدء العمليات. الصور القادمة من الميدان تُظهر أطفالاً يبحثون عن مأوى، نساءً ينتظرن عند المعابر، وشيوخاً يحملون ما تبقى من متاعهم. في هذا السياق، لم يعد الحديث عن “جرائم حرب محتملة” مجرد تحذير دبلوماسي، بل انعكاس لواقع يتكرر دون محاسبة حقيقية.

منظمات حقوقية دولية، مثل هيومن رايتس ووتش، حذرت من أنّ استمرار القصف في مناطق مكتظة بالمدنيين قد يشكل جرائم حرب، مما يزيد الضغط على الأطراف للتوصل إلى حلول عاجلة. تقارير أخرى كشفت أنّ الولايات المتحدة كانت على علم بمناقشات إسرائيلية حول استخدام فلسطينيين كدروع بشرية في الأنفاق، ما يثير تساؤلات حول مدى التزام القوى الكبرى بالقانون الدولي.

حماس تواجه تحدياً يهدد استمرارها والمفاوضات حول إخراج مقاتليها تضعها أمام خيارات صعبة: هل تستمر في الاعتماد على الأنفاق كأداة دفاعية أم تحولها إلى ورقة تفاوضية؟

الولايات المتحدة تلعب دوراً محورياً في هذه المفاوضات. فهي الحليف التقليدي لإسرائيل، لكنها تبدي تململاً متزايداً من استمرار العمليات في رفح. تصريحات البيت الأبيض الأخيرة، التي دعت إلى “أقصى درجات ضبط النفس”، تعكس قلقاً من تحول غزة إلى نقطة انفجار إقليمي، خاصة مع تصاعد التوترات في لبنان والضفة الغربية. المبعوث الأميركي جاريد كوشنر شارك في قيادة المحادثات، مقترحاً اتفاقاً يشمل نفي المقاتلين إلى تركيا أو قطر، مع ضمانات أمنية.

هذا الضغط الأميركي يفتح نافذة لتسوية جزئية، لكنه لا يضمن وقفاً دائماً للعنف، ولا يعالج جذور الصراع مثل الاحتلال والحصار المستمر. وفي تطور حديث، أفادت تقارير بأن إسرائيل وافقت مبدئياً على نفي نحو 200 مقاتل من حماس محاصرين في الأنفاق، كجزء من خطة سلام أميركية تشمل نقاطاً لنزع السلاح وإعادة الإعمار. ومع ذلك، يظل الخلاف قائماً بين المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين حول السماح بخروج آمن، إذ يرى بعضهم في ذلك نموذجاً لنزع السلاح، بينما يخشى آخرون من عودة هؤلاء المقاتلين إلى النشاط المسلح.

حماس تواجه بدورها تحدياً وجودياً. المفاوضات حول إخراج مقاتليها تضعها أمام خيارات صعبة: هل تستمر في الاعتماد على الأنفاق كأداة دفاعية، أم تحولها إلى ورقة تفاوضية؟ مسؤولون في الحركة أكدوا أنّ المقاتلين لن يستسلموا، لكنهم يسعون لحل يزيل أي ذريعة لإسرائيل لاستمرار العدوان.

هذا التحول يشير إلى أنّ الحركة قد تفكر بمنطق الدولة أكثر من منطق التنظيم المسلح، مما قد يفتح الباب لإعادة تعريف دورها في الساحة الفلسطينية، خاصة مع الانقسام الداخلي بين السلطة الوطنية في رام الله وحركات المقاومة في غزة. ففي ظل هذه المفاوضات، أصبحت حماس جزءاً من حوار دولي يتجاوز الصراع المحلي، حيث يُطلب منها تقديم تنازلات مثل تسليم جثامين الرهائن، كما حدث مؤخراً مع نقل جثة الجندي الإسرائيلي هادار غولدين.

لكن هذا التحول لا يحدث في فراغ. المشهد الفلسطيني يعاني من انقسامات عميقة تحول دون توحيد الجهود. السلطة الوطنية تبدو عاجزة عن فرض رؤيتها السياسية، بينما تتصارع حركات المقاومة على الشرعية الشعبية. في ظل هذا، تبقى أي تسوية جزئية، مثل إخراج المقاتلين، حلولاً مؤقتة لا تعالج الأزمة البنيوية، مثل الحاجة إلى حل سياسي شامل يعيد الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك حق العودة والدولة المستقلة. ومع ذلك، يمكن لهذه المفاوضات أن تكون بداية لإعادة بناء الثقة، خاصة إذا نجحت في فتح ممرات إنسانية وإدخال مساعدات إلى شمال غزة، الذي يعاني من إغلاق معابر منذ شهور.

التطورات تطرح أسئلة أخلاقية عميقة: هل يمكن للمقاومة الاستمرار إذا كانت تكلفتها الإنسانية بهذا الحجم؟ وهل يحق لأي تنظيم استخدام المدنيين كدروع بشرية؟ هذه الأسئلة، التي كانت تُطرح همساً، أصبحت اليوم محور نقاش علني داخل الأوساط الفلسطينية، مطالبة بإعادة تعريف الكفاح بعيداً عن التضحية المطلقة. ففي نهاية المطاف، ما يحدث في رفح ليس مجرد فصل في الحرب، بل اختبار لمستقبل المقاومة: إما الانتقال إلى منطق السياسة والدبلوماسية، أو الاستمرار في مسار يحمل خسائر بشرية ومأزقاً أخلاقياً. وبين الخيارين، يظل الشعب الفلسطيني الضحية الأولى، في صراع يبدو أنّ نهايته ليست قريبة دون تدخل دولي حاسم يفرض حلاً عادلاً يعيد السلام إلى المنطقة بأكملها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى